الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه الشبهة قديمة لا جديد فيها، وقد ارتفع اللبس فيها، وتناول الردّ عليها سلف هذه الأمة وخلفها، فليس فيها مقال لقائل وننتقي في هذا الجواب من ذلك ما جاء به الشيخ العثيمين، فقد بين حقيقة هذه الشبهة وذكر طرفا مما استدلّ به أصحابها وتتبع ذلك بالنقض، ثم أتى بالردّ على هذه الشبهة من الكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، حيث يقول ـ رحمه الله تعالى ـ في مجموع الفتاوى والرسائل: استدل الجبرية: بقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ { الزمر:62} والعبد وفعله من الأشياء، وبقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ { الصافات:96} وبقوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى {الأنفال:17} فنفى الله الرمي عن نبيه حين رمى وأثبته لنفسه، وبقوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ { الأنعام: 148} ولهم شُبَهٌ أخرى تركناها خوف الإطالة، والرد على شبهاتهم بما يلي: أما قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ـ فاستدلالهم بها معارض بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإثابته عليه كرامة أو إهانة، وكلها من عند الله، ولو كان مجبرا عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة.
وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ـ فهو حجة عليهم، لأنه أضاف العمل إليهم، وأما كون الله تعالى خالقه، فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة، والإرادة والقدرة مخلوقان لله عز وجل، فكان الحاصل بها مخلوقا لله.
وأما قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ـ فهو حجة عليهم، لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن الرمي في الآية له معنيان:
أحدهما: حذف المرمي، وهو فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أضافه الله إليه.
الثاني: إيصال المرمي إلى أعين الكفار الذين رماهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم وهذا من فعل الله، إذ ليس بمقدور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم.
وأما قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ـ فلعمر الله، إنه الحجة على هؤلاء الجبرية، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذي احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ـ وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به.
ثم نقول: القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، ولا يقول به من قدّر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته، فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ { آل عمران: 152} وقال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ { آل عمران: 167} وقال: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ { النمل: 88} وقال تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ { المنافقون:11} فأثبت للعبد إرادة وقولا وفعلا وعملا.
ومن أدلة السنة: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وقوله: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم ـ ولهذا إذا أُكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه، لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختيارا.
وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر: فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم.
وأما دلالة العقل على بطلانه: فلأنه لو كان العبد مجبرا على عمله، لكانت عقوبة العاصي ظلما، ومثوبة الطائع عبثا، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، ولأنه لو كان العبد مجبرا على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل، لأن القدر باق مع إرسال الرسل، وما كان الله ليقيم على العباد حجة مع انتفاء كونها حجة.
وأما دلالة الحس على بطلانه: فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله باختياره، كأكله وشربه وقيامه وقعوده، وبين ما فعله بغير اختياره، كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك. اهـ.
والله أعلم.