الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز للقائد التفريط في جنوده وتركهم في الأسر ولا في الإعانة على قتلهم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: نصر آحاد المسلمين واجب بقوله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ـ وبقوله: المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه. انتهى
وقال الشوكاني في النيل: يجب نصر المظلوم، ودفع من أراد إذلاله بوجه من الوجوه، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً، وهو مندرج تحت أدلة النهي عن المنكر. انتهى.
ومما يحسن ذكره من فضل أمراء السلف ما ذكره الدكتور الصلابي عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال: ومن الصفات التي تميز بها معاوية ـ رضي الله عنه ـ صفة الدهاء والحيلة، ومما يروى من دهائه وحسن إدارته وتدبيره, أن المسلمين غزوا في أيامه فأسر جماعة منهم, فوقفوا بين يدي ملك الروم بقسطنطينية, فتكلم بعض أسارى المسلمين, فدنا منه بعض البطارقة, ممن كان واقفا بين يدي الملك فلطم حر وجهه, وكان رجلا من قريش فصاح: واسلاماه أين أنت عنا يا معاوية؟ إذ أهملتنا وأضعت ثغورنا وحكمت العدو في دمائنا وأعراضنا؟ فنمى ذلك الخبر إلى معاوية, فآلمه وامتنع من لذيذ الطعام والشراب, فخلا بنفسه, وامتنع عن الناس ولم يُظهر ذلك لأحد من المخلوقين, ثم أعمل الحيلة في إقامة الفداء بين المسلمين والروم, إلى أن فدى ذلك الرجل, ومن أسر معه من المسلمين, فلما صار الرجل إلى دار الإسلام, دعاه معاوية فبره وأحسن إليه، ثم قال له: لم نهملك, ولم نضيعك, ولا أبحنا دمك وعرضك، ومعاوية أثناء ذلك يدبر الرأي ويعمل الحيلة ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور, وكان عارفا كثير الغزوات في البحر صمك من الرجال مرطان بالرومية, فأحضره وخلا به وأخبره بما قد عزم عليه وسأله إعمال الحيلة فيه, والتأني له, فتوافقا على أن يدفع للرجل مالا عظيما, ليبتاع به أنواعا من الطرف والملح والجهاز من الطيب والجوهر وغير ذلك, وأنشأ له مركبا لا يلحق في جريه سرعة, ولا يدرك في سيره, إنشاء عجيبا, فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرص فاتصل برئيسها وأخبره أن معه حاجة للملك, وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية قاصدا إلى الملك وخواصه بذلك فروسل الملك بشأنه, فأذن له, فدخل خليج القسطنطينية, فلما وصلها أهدى للملك وجميع بطارقته, وبايعهم وشاراهم, وقصدهم, إلا ذلك البطريق الذي لطم القرشي, وتأنى الصوري من الأمور على حسب ما رسمها له معاوية, وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام, وقد أمره أكثر البطارقة أن يبتاع حوائج ذكروها, وأنواعا من الأمتعة وصفوها, فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سرا, وذكر له من الأمر ما جرى، فابتاع له ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه وتقدم إليه معاوية فقال: إن ذلك البطريق إذا عدت في كرتك هذه سيعذلك عن تخلفك عن بره, واستعانتك به, فاعتذر إليه ولاطفه بالقول والهدايا, واجعله القيم بأمرك, والتفقد لأحوالك تزداد عندهم, فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به, وعلمت ما غرض البطريق وإيش الذي يأمرك بابتياعه فعد به إلينا لتكون الحيلة على حسبه, فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة مما لم يطلب زادت منزلته, وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وسائر الحاشية, فلما كان في بعض الأيام وهو يريد الدخول إلى الملك, قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك, وقال له: ما ذنبي إليك؟ وبم استحق غيري أن تقصده, وتقضي حوائجه وتعرض عني, قال الصوري: أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب, وأرحل إلى هذا البلد كالمتنكر من أسارى المسلمين, وجواسيسهم لئلا ينمو خبري ويوشوا بأمري إلى المسلمين فيكون في ذلك بواري، والآن فإذا قد علمت ميلك إلي فلست أحب أن يعتني بأمري سواك, ولا يقوم بحالي عند الملك وغيره غيرك, فمرني بحوائجك وجميع ما يعرض من أمورك بأرض الإسلام, وأهدى إلى ذلك البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجوهر والطرف والثياب ولم يزل هذا فعله, يتردد من الروم إلى معاوية ومن معاوية إلى الروم، ويسأله الملك والبطريق وغيره من البطارقة الحوائج الجليلة والحيلة لا تتوجه إلى معاوية, حتى مضى على ذلك سنين، فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري, وقد أراد الخروج إلى دار الإسلام: قد اشتهيت أن تعمدني بقاء حاجة, وتمن بها علي, وهي أن تبتاع لي بساط سوسنجرد بمخاده ووسائده, ويكون فيه من أنواع الألوان الحمرة والزرقة وغيرها, ويكون من صفة كذا وكذا, ولو بما بلغ ثمنه كل مبلغ, فأنعم له بذلك, وكان من شأن الصوري أن يكون مركبه إذا ورد القسطنطينية بالقرب من موضع ذلك البطريق، وكان للبطريق ضيعة سرية, وفيها قصر مشيد, ومنتزه حسن على أميال من القسطنطينية راكبه على الخليج, وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه وكانت الضيعة فيما بين قسم الخليج من يلي بحر الروم والقسطنطينية، فانصرف الصوري إلى معاوية سرا, فأخبره بالحال فأحضر معاوية بساطا بوسائد ومخاد ومجلسا حسنا, فانصرف به مع جميع ما طلب منه من أرض الإسلام, وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة وكيفية إيقاعها، وكان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤانسة والعشرة, وفي الروم طمع وشره فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية, وقد طابت له الريح, وقرب من ضيعة البطريق, أخذ الصوري أخبار البطريق من أصحاب القوارب والمراكب, فأخبر أن البطريق في ضيعته, وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة وخمسين ميلا, والضياع والعمائر على حافتيه, والمراكب تختلف, والقوارب بأنواع المتاع والأقوات, إلى القسطنطينية من هذه العمائر لا تحصى كثرة، فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش البساط ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخاد في صحن المركب ومجلسه, والرجال تحت المجلس بأيديهم المقاذيف مشكلة قائمة غير قاذفين بها, ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا من ظهر منهم في عمله والريح في القلع, والمركب مار في الخليج كأنه سهم خرج عن كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه لسرعة سيره واستقامته في جريه, فأشرفه على قصر البطريق, وهو جالس في مستشرفه مع حرمه, وقد أخذت منه الخمر, وعلاه الطرب, وذهب به الفرح والسرور كل مذهب, فلما رأى البطريق مركب الصوري زعق طربا, وصاح فرحا وسرورا وابتهاجا بقدومه, فدنا من أسفل القصر فحط القلع, وأشرف البطريق على المركب فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط, ونظم تلك الفرش, كأنه رياض يزهر, فلم يستطيع اللبث في موضعه, حتى نزل قبل أن يخرج الصوري من مركبه إليه, فطلع إلى المركب فلما استقر قدمه على المركب ودنا من المجلس, وضرب الصوري بعقبه على من تحت البساط وكانت علامة بينه وبين الرجال الذين في بطن المركب, فما استقر دقه في المركب بقدمه, حتى اختطف المركب بالمقاذيف, وإذا هو وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء، وارتفع الصوت ولم يدر ما الخبر لمعالجة الأمر, فلم يكن الليل حتى خرج عن الخليج وتوسط البحر, وقد أوثق البطريق كتافا, وطابت له الريح, وأسعده الجد, وحمله المقدار في ذلك اللج, فتعلق في اليوم السابع بساحل الشام, ورأى البر وحمل الرجل فكان في اليوم الثالث عشر مأسورا بين يدي معاوية فسر بذلك معاوية، وقال: علي بالرجل القرشي, فأتي به وقد حضره خواص الناس, فأخذوا مجالسهم, وغص المجلس بأهله, فقال معاوية للقرشي: قم فاقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظم الروم, فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك ولا عرضك، فقام القرشي فدنا من البطريق, فقال معاوية: انظر لا تتعدى ما جرى عليك, واقتص منه على حسب ما صنع بك ولا تعتد, وارع ما أوجب الله عليك من المماثلة, فلطمه القرشي لطمات ووكزه في حلقه, ثم أكب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها, وقال: ما ضاع من سودك, ولا خاب فيك من رأسك, أنت ملك لا يستضام، تمنع حماك, وتصون رعيتك، وأرق في وصفه ودعائه, وأحسن معاوية إلى البطريق, وخلع عليه وبره, وحمل معه البساط, وأضاف إلى ذلك أشياء كثيرة وهدايا إلى الملك, وقال له: ارجع إلى ملكك, وقل له: تركت ملك المسلمين يقيم الحدود على بساطك, ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك وعزك, وقال للصوري: سر معه حتى تأتي الخليج فتطرحه فيه ومن أسر معه, ممن كان بادر فصعد إلى المركب من غلمان البطريق وخاصته فحملوا إلى صور مكرمين, وحمل الجميع في المركب, وطابت لهم الريح, فكانوا في اليوم الحادي عشر متعلقين بأرض الروم فقربوا من الخليج, فإذا قد أحكم فمه بالسلاسل والمنعة من الموكولين به, فطرح البطريق، وحمل من وقته إلى الملك ومعه الهدايا والأمتعة وتباشرت الروم بقدومه, وتلقوه مهنئين له بخلاصه من الأسر, فكافأ الملك معاوية على ما كان من فعله في أمر البطريق والهدايا, فلم يكن يستضام أسير من المسلمين في أيامه, وقال الملك: هذا أدهى العرب وأمكر الملوك, ولهذا قدمته العرب عليها, فأساس أمورها, ولو هم بأخذي لتمت له الحيلة علي.
وهذه القصة دليل على دهاء معاوية ـ رضي الله عنه ـ وحسن سياسته واهتمامه بأمور رعيته والمحافظه على حقوق كل فرد فيها وصيانة كرامته. اهـ.
والله أعلم.