الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا الكلام عن هذا الحديث الصحيح ودلالته، وكشف شيء مما يروَّج حوله من الشبهات، وذلك في الفتوى رقم: 152391.
وأما الحكم على الدول الغربية بأنها متحضرة! وجعلها مقياسًا لذلك، فهذا خطأ شائع، وهو مما يؤسف له، فالحضارة في جانبها المادي لا يمكن أن تتبوأ هذه المكانة! ولا ريب أن من يعرف حال القوم من الناحية الاجتماعية والأخلاقية لا يقول بذلك.
وعلى أية حال: فقد سبق لنا بيان موقف المسلم من الحضارة الغربية في الفتوى رقم: 122383, وبيان أن الحضارة الإسلامية تجمع بين مصالح المعاش ومنافع المعاد، في الفتوى رقم: 174971, وبيان أثر المرأة في الحضارة الإسلامية، في الفتوى رقم: 165511.
وأما اعتبار هذا الحديث إهانة المرأة: فغلط ظاهر، بل العكس هو الصحيح، فإن وضع المرأة في مكانة لا تليق بها هو عين إهانتها وإهدار كرامتها, قال الدكتور مصطفى السباعي في كتاب المرأة بين الفقه والقانون بعد ذكر ما تضمنه هذا الحديث من منع المرأة من الولاية العامة: هذا مما لا علاقة له بموقف الإسلام من إنسانية المرأة وكرامتها وأهليتها، وإنما هو وثيق الصلة بمصلحة الأمة، وبحالة المرأة النفسية، ورسالتها الاجتماعية.
إن رئيس الدولة في الإسلام ليس صورة رمزية للزينة والتوقيع، وإنما هو قائد المجتمع, ورأسه المفكر، ووجهه البارز، ولسانه الناطق، وله صلاحيات واسعة خطيرة الآثار والنتائج, فهو الذي يعلن الحرب على الأعداء، ويقود جيش الأمة في ميادين الكفاح، ويقرر السلم والمهادنة، إن كانت المصلحة فيهما، أو الحرب والاستمرار فيها إن كانت المصلحة تقتضيها، وطبيعي أن يكون ذلك كله بعد استشارة أهل الحل والعقد في الأمة، عملًا بقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} ولكنه هو الذي يعلن قرارهم، ويرجح ما اختلفوا فيه، عملًا بقوله تعالى بعد ذلك: {فإذا عزمت فتوكل على الله} ورئيس الدولة في الإسلام يتولى خطابة الجمعة في المسجد الجامع، وإمامة الناس في الصلوات، والقضاء بين الناس في الخصومات، إذا اتسع وقته لذلك.
ومما لا ينكر أن هذه الوظائف الخطيرة لا تتفق مع تكوين المرأة النفسي والعاطفي، وبخاصة ما يتعلق بالحروب وقيادة الجيوش، فإن ذلك يقتضي من قوة الأعصاب، وتغليب العقل على العاطفة، والشجاعة في خوض المعارك، ورؤية الدماء، ما نحمد الله على أن المرأة ليست كذلك, وإلا فقدت الحياة أجمل ما فيها من رحمة ووداعة وحنان.
وكل ما يقال غير هذا لا يخلو من مكابرة بالأمر المحسوس، وإذا وجدت في التاريخ نساء قدن الجيوش، وخضن المعارك، فإنهن من الندرة والقلة بجانب الرجال ما لا يصح أن يتناسى معه طبيعة الجمهرة الغالبة من النساء في جميع عصور التاريخ وفي جميع الشعوب، ونحن حتى الآن لم نر في أكثر الدول تطرفًا في دفع المرأة إلى كل ميادين الحياة من رضيت أن تتولى امرأة من نسائها وزارة الدفاع، أو رئاسة الأركان العامة لجيوشها، أو قيادة فيلق من فيالقها، أو قطع حربية من قطعاتها, وليس ذلك مما يضر المرأة في شيء، فالحياة لا تقوم كلها على نمط واحد من العبوس والقوة والقسوة والغلظة، ولو كانت كذلك لكانت جحيمًا لا يطاق، ومن رحمة الله أن الله مزج قوة الرجل بحنان المرأة، وقسوته برحمتها، وشدته بلينها، وفي حنانها ورحمتها وأنوثتها سر بقائها وسر سعادتها وسعادتنا ..
والخلاصة أن الإسلام بعد أن أعلن موقفه الصريح من إنسانية المرأة وأهليتها وكرامتها، نظر إلى طبيعتها وما تصلح له من أعمال الحياة، فأبعدها عن كل ما يناقض تلك الطبيعة، أو يحول دون أداء رسالتها كاملة في المجتمع؛ ولهذا خصها ببعض الأحكام عن الرجل زيادة أو نقصانًا, كما أسقط عنها - لذات الغرض - بعض الواجبات الدينية والاجتماعية, كصلاة الجمعة، ووجوب الإحرام في الحج، والجهاد في غير أوقات النفير العام، وغير ذلك، وليس في هذا ما يتنافى مع مبدأ مساواتها بالرجل في الإنسانية والأهلية والكرامة الاجتماعية، ولا تزال الشرائع والقوانين في كل عصر، وفي كل أمة تخص بعض الناس ببعض الأحكام لمصلحة يقتضيها ذلك التخصيص دون أن يفهم منه أي مساس بمبدأ المساواة بين المواطنين في الأهلية والكرامة اهـ. وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 59957.
والله أعلم.