الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما بخصوص مسألة سن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سبق لنا تحريرها وجواب إشكال مقارنة سنها بسن أختها أسماء ـ رضي الله عنها ـ وذلك في الفتوى رقم: 111903.
كما سبق لنا مزيد بيان لذلك والتأكيد على أن زواجها كان قبل أن تبلغ الحلم وإن كانت قد بلغت مبلغ النساء في ما يتعلق بالعشرة الزوجية، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 196965، 73838، 154629.
وراجع في ما يخص مكانة الصحيحين الفتوى رقم: 13678.
والذي نريد لفت نظر السائل إليه هنا أن ردَّ الأحاديث الصحيحة ـ ولا سيما إن كانت في الصحيحين أو أحدهما، وتلقاها فقهاء الأمة بالقبول واحتجوا به على مر العصور ـ بدعوى مخالفتها للقرآن أو للعقل: من المسائل التي زلت فيها أقدام كثير من الناس!! فإن نصوص الوحي المعصوم لا تتعارض ولا تخالف العقل الصريح، وأحكام الشريعة الإسلامية لها من الحِكم ما يخفى على كثير من الناس، ثم إنها لم تأت لتوافق ذوق أو عرف طائفة من البشر في عصرٍ ما أو مكان معين، بل جاءت للناس كافة في كل زمان ومكان، وما كان كذلك فلا غرابة أن تُستغرَب بعض أحكامه في بعض العصور أو الأمكنة، ولكن عند التحقيق والتدقيق تجدها موافقة للعقل السليم، جامعة لمصالح البشرية إجمالا! ومن هذا: مسألة تحديد سن الزواج، فإن الإسلام لم يعين سنا معينة لا يجوز عقد الزواج قبلها، بل ترك ذلك لنظر الأولياء، وراعى فيه أعراف الناس وخصوصية كل مجتمع، واكتفى بوضع الضوابط العامة والقواعد الكلية التي تدفع الخطر، وتوجِّه النظر لضرورة رفع الضرر، وراجع في تفصيل القول في مسألة نكاح الصغيرة وما يتعلق بها من ضوابط وأحكام الفتوى رقم: 195133.
وأما مسألة كفر بعض الناس بالإسلام بسبب ما قد يتصورونه من المغالطات التي في الصحيحين بحسب فهومهم القاصرة: فهذا إن وجد، فإنه سيوجد مثله مع آيات القرآن المجيد، ودورنا في الحالين هو حسن بيان أحكام الشريعة والتبصر في دعوة الناس إليها، وأما إنكارها إو تحريفها فهذا من الضلال المبين، على أننا نؤكد أن مثل هذه الأحكام إن كانت فتنة لطائفة من البشر، فإنها بصائر وهداية لآخرين، وهذا هو حال القرآن، كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا {الإسراء: 82}.
وقال عز وجل: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى {فصلت: 44}.
وقال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ {آل عمران: 7}.
وأما مسألة تضارب روايات التاريخ أو غيرها من الروايات!! فهذا حال البشرية في مدوناتها التاريخية وتراثها الثقافي، وتبقى ميزة أهل الإسلام في ما يسر الله لهم من علوم الإسناد وتوثيق الرويات ونقدها، فقد تفردنا من بين الأمم بضوابط علمية متينة في نقل الأخبار ونقدها وتمحيصها، حتى لقد قال المستشرق المجري مارجيليوس: ليفتخرْ المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. اهـ.
وارجع الفتويين رقم: 132402، ورقم: 184271.
والله أعلم.