الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمن سنة الله تعالى الماضية في خلقه أنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه [إبراهيم:4]. وقال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان:58].
ولما كان العرب الذين نزل فيهم القرآن مختلفي اللهجات، وإن اتحدت لغتهم أنزل الله تعالى كتابه على لهجاتهم ليتمكنوا من تلاوته وينتفعوا بما فيه من أحكام وشرائع، فلو نزل بلهجة واحدة لكان في ذلك من المشقة ما لا يخفى، وخاصة أن العرب في ذلك الوقت أمة أميَّة لا تكتب ولا تحسب، ومن الصعب على الإنسان أن يتحول من لهجته التي درج عليها، فلو كلف الله تعالى العرب مخالفة لهجاتهم التي درجوا عليها، لكان في ذلك مشقة وحرج شديد، وهذا الدين جاء برفع المشقة والحرج: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 78].
ولقد يسر الله تعالى حفظ هذا الكتاب وتلاوته ليكون دستوراً للأمة تطبقه في واقع حياتها، وتتعبد بتلاوته آناء الليل والنهار.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرئ الصحابة بلهجاتهم، ليسهل على كل قبيلة تلاوته بما يوافق لهجتها، فلم يضيعوا منه جملة واحدة، ولم يغفلوا منه كلمة، بل ولا حرفاً ولا حركة ولا سكوناً، ونقله التابعون عن الصحابة على هذا الوجه من الإحكام والتحرير والإتقان والتجويد.
ثم إن جماعة من التابعين وأتباع التابعين كرسوا حياتهم، ووهبوا أعمارهم، وقصروا جهودهم على قراءة القرآن وإقرائه، وعنوا العناية التامة بضبط ألفاظه، وتجويد كلماته، وتحرير قراءاته، وتحقيق رواياته، وكان ذلك شغلهم الشاغل، وهدفهم الأوحد حتى صاروا في ذلك أئمة يقتدى بهم، ويرحل إليهم ويؤخذ عنهم، لذلك نسبت القراءة إليهم فقيل: قراءة فلان كذا وكذا، فنسبة القراءة إليهم نسبة ملازمة ودوام لا نسبة اختراع وابتداع، ومن هؤلاء الذين انقطعوا للتعلم والتعليم القراء العشر أصحاب القراءات المعروفة، وعلى رأسهم قارئ المدينة: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، وراوياه عيسى بن مينا بن وردان الملقب: قالون. وعثمان بن سعيد الملقب: ورش.
وقد اشتهرت روايتهما عن نافع في المغرب الغربي، وشمال وغرب أفريقيا، وفي ليبيا اشتهرت رواية قالون حيث طبع هناك مصحف بروايته، وحسب علمنا فلم تطبع رواية قالون إلا في ليبيا مع أنهم يقرأون أيضاً برواية ورش.
والله أعلم.