الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أطلق غير واحد من أهل العلم لفظ الكراهة في بعض البدع، ومنهم من قسم البدع على الأحكام التكليفية الخمسة، كالعز بن عبد السلام حيث قال في قواعد الأحكام: البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة ... وللبدع المكروهة أمثلة، منها: زخرفة المساجد، ومنها: تزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي، فالأصح أنه من البدع المحرمة. اهـ.
قال الدكتور عبد الله بن عبد العزيز التويجري في رسالته للماجستير البدع الحولية: يختلف حكم البدعة باختلاف تقسيمها، فالعلماء الذين قسَّمُوا البدعة إلى خمسة أقسام بحسب الأحكام التكليفية- كالعز بن عبد السلام وغيره - لا إشكال عندهم ـ رحمهم الله ـ في حكم البدعة، فهي عندهم تنقسم إلى بدعة واجبة، وبدعة مندوبة، وبدعة مباحة، وبدعة مكروهة، وبدعة محرمة, وأما على قول من قال: إن البدع كلها مذمومة - وهو القول الراجح من أقوال العلماء - فإنهم قالوا بأن البدع حرام، ولكنها تتفاوت في التحريم:
أ- فمنها ما هو كفر لا يحتمل التأويل، كبدعة الجاهلية التي نبَّه عليها القرآن، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}.
ب- ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر، أو مختلف فيها هل هي كفر أم لا؛ كبدعة الخوارج والقدرية.
ج- ومنها ما هو معصية؛ كبدعة التبتل، والصيام قائمًا في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
د- ومنها ما هو مكروه، كبدعة التعريف - وهو اجتماع الناس في المساجد للدعاء عشية عرفة - وذكر السلاطين في خطبة الجمعة، ونحو ذلك. فهذه البدع ليست في رتبة واحدة، وليس حكمها واحدًا اهـ.
والراجح ـ والله أعلم ـ أن ما ينطق عليه ضابط البدعة الشرعية إذا وصف بالكراهة فمحملها الصحيح على الكراهة التحريمية لا التنزيهية، فكل بدعة في الشرع ضلالة، على تفاوت بينها في الرتبة، ولكن هناك بعض الأمور يطلق عليها البدعة من جهة استحداثها, ولا تكون من البدع الشرعية، وإنما هي ألصق بباب المنهيات أو العادات، قال الشاطبي في الاعتصام: إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة، وأن منها ما هو مكروه، كما أن منها ما هو محرم، فوصف الضلالة لازم لها, وشامل لأنواعها؛ لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» .... وقد قال الله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32] فليس إلا حق وهو الهدى، وضلال وهو الباطل، فالبدع المكروهة ضلال. وأما ثانيا: فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع, ولا من كلام الأئمة على الخصوص, أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على من قال: «أما أنا فأقوم الليل ولا أنام»، وقال الآخر: «أما أنا فلا أنكح النساء» إلى آخر ما قالوا، فرد عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني». وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب, أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر ... وأما كلام العلماء فإنهم - وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها - لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين [لعلها: الكراهتين]. فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك, وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحًا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام, ويتحامون هذه العبارة خوفًا مما في الآية من قوله: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} [النحل: 116] وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى, فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها: أكره هذا، ولا أحب هذا، وهذا مكروه, وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط، فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة, فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله، لا لأنه بدعة مكروهة، على تفصيل يذكر في موضعه.
وأما ثالثا: فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة, وبيان ذلك من أوجه، أحدها: أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلًا على العفو اللازم فيه، ورفع الحرج الثابت في الشريعة، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب, وأيضًا فليس عقده الإيماني بمتزحزح؛ لأنه يعتقد المكروه مكروهًا, كما يعتقد الحرام حرامًا - وإن ارتكبه -، فهو يخاف الله ويرجوه، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان, فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل، وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه, ويود لو لم يفعل، وأيضا فلا يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب, طامعًا في الإقلاع, سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا, ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال، فإنه يعد ما دخل فيه حسنًا، بل يراه أولى بما حد له الشارع، فأين مع هذه خوفه أو رجاؤه؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلًا، ونحلته أولى بالاتباع, هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى ... والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل بدعة ضلالة" متعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى ألا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ ... فما سمي بدعة, وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم: إما أن يقال: ليس ببدعة في الدين, وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة, كما قال عمر: "نعمت البدعة هذه". وإما أن يقال: هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح، كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم، كسائر عمومات الكتاب والسنة اهـ.
وقال الشيخ عبد المحسن العباد في شرح الأربعين النووية: البدعة كلها ضلال، ولكنها متفاوتة ولا شك، فبعضها أشد وأسوأ، ولكن كلها موصوفة بأنها محرمة, وأنها ضلالة، فليس هناك بدعة يقال فيها: إنها مكروهة كراهة تنزيه! بل كل بدعة ضلالة، وكل بدعة محرمة، وإنما كراهة التنزيه تكون في النواهي. اهـ. وراجع الفتوى رقم: 132845.
والله أعلم.