الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجواب هذا قد أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم غاية الإيضاح في قوله: "حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات". متفق عليه, أي أنه لا يُوصَلُ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْمَكَارِهِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَى النَّارِ إِلَّا بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ، فَمَنْ هَتَكَ الْحِجَابَ وَصَلَ إِلَى الْمَحْجُوبِ، فَهَتْكُ حِجَابِ الْجَنَّةِ بِاقْتِحَامِ الْمَكَارِهِ، وَهَتْكُ حُجُبِ النَّارِ بِارْتِكَابِ الشَّهَوَاتِ، وإذا علم هذا فإن النفس الأمارة بالسوء تميل إلى البطالة والدعة، ويثقل عليها الحق والانقياد له؛ لما جبلت عليه من الظلم والجهل، ولا ينجو من هذا إلا من نجاه الله تعالى, وألهمه رشده، فعلى العبد أن يجاهد نفسه الأمارة بالسوء, ويعودها ترك الباطل, ومحبة الحق, والإقبال عليه حتى يصير ذلك لها سجية وعادة, فيؤدي الحق سماحة لا كظمًا, وطواعية لا كرهًا، وحينئذ يحصل له الالتذاذ بطاعة الله تعالى, والأنس بذلك أعظم بمرات مما يلتذ أهل الشهوات بشهواتهم, كما قال بعض السلف: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم, وهذه المرتبة لا يصل العبد إليها إلا بعبور جسر المجاهدة, وحمل النفس على ما تكره، ولتنظر الفتوى رقم: 139680.
والحاصل أن مجاهدة النفس هي سبيل ذوق حلاوة الإيمان, وإيثار العالي على الدنيء, والغالي على الرخيص، وهي كذلك سبيل كبح جماح النفس, وحملها على المضي في طريق الطاعة والاستقامة وعدم الحنين إلى المعاصي، ومما يعين على هذه المجاهدة أن يستحضر العبد حقارة الدنيا وضآلتها, وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمن أشرب قلبه هذه المعاني, وعقلها تمام التعقل لم يكد يفكر في إيثار شهواتها السريعة الزوال على نعيم لم تره عين, ولم تسمع به أذن, ولم يخطر على قلب بشر، ومما يعين على ذلك أيضًا التفكر في النار وما أعده الله لأهلها من العقوبة والنكال، وأن إيثار هذه الشهوات العاجلة واللذات الحاضرة من أعظم الحمق إذا كان يفضي بصاحبه إلى مثل هذه العقوبة الأليمة، وقبل ذلك الاستعانة بالله تعالى واللجأ إليه, والاجتهاد في دعائه أن يوفق العبد لما فيه رضاه, فإن الموفق من وفقه الله, والمخذول من خذله الله، ومن يضلل الله فما له من هاد, ومن يهد الله فما له من مضل, فنسأل الله أن يلهمنا رشدنا, وأن يعيذنا من شر أنفسنا.
والله أعلم.