الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه على أن أهل السنة يعتمدون على الإسناد في النقل والإثبات، وقد جرت سنة مؤرخيهم على إبراء ذمتهم بعزو ما ينقلونه إلى قائله وراويه، فهذا شيخهم أبو جعفر الطبري يقول في مقدمة تاريخه: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا. اهـ.
فكتب التاريخ والملاحم مليئة بالأخبار المكذوبة والمنكرة، وإنما يُعرَف ذلك بدراسة الإسناد والمتن.
قال الدكتور حمزة المليباري في (نظرات جديدة في علوم الحديث): إن الأئمة النقاد على التزامهم بترك رواية الوضاعين والكذابين عموماً، بينما تساهل الآخرون من غير الحفاظ في جمع الموضوعات والغرائب والأباطيل وكتابتها وروايتها، ومن ثم أصبحت كتب التفاسير والسير والفضائل تفيض بالمنكرات والمفتريات، مما جعل الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ يقول : "ثلاثة علوم لا أصل لها: التفسير والتاريخ والملاحم" اهـ.
وقد روى الطبري ـ رحمه الله ـ قصة عثمان بن حنيف المذكورة في السؤال فقال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، عن سهل بن سعد، قال: لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: اقتلوه، فقالت لها امرأة ... فذكر القصة.
وأبو الحسن شيخ عمر بن شبة هو المدائني الذي ذكر الحافظ ابن عبد البر القصة من طريقه، وبذلك يعرف أن شيوخه المبهمين هم أبو مخنف وأمثاله، وأبو مخنف هذا هو لوط بن يحيى، قال الذهبي: أخباري تالف لا يوثق به. تركه أبو حاتم وَغيره. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن مَعِين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عَدِي: شيعي محترق صاحب أخبارهم. ( لسان الميزان 6/430) وراجع للفائدة الفتوى رقم: 120404.
وقد ذكر الدكتور يحيى اليحيى هذه الرواية في رسالته للدكتوراة: (مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري ص 258 : 295) وعلق عليها بقوله: ما ذكره أبو مخنف من ضرب عثمان بن حنيف ونتف شعر وجهه لم يثبت من طريق صحيح يمكن أن يعول عليه، والصحابة الكرام ينزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة. والذي يفهم من رواية سيف أن الغوغاء هم الذين فعلوا ذلك، وأن طلحة والزبير رضي الله عنهما استشنعاه، واستعظماه وبعثا بالخبر إلى عائشة فقالت: "خلوا سبيله وليذهب حيث شاء". وهذه الرواية عارضت تفصيلات أبي مخنف فهي لم تذكر الأمر بقتله أو حبسه أو الأمر بنتف شعر وجهه، وقد اختار هذه الرواية النويرى وابن كثير. وذكر الذهبي أن مجاشع بن مسعود قد قتل قبل دخول دار عثمان بن حنيف. وحتى لو فرض عدم قتل مجاشع بن مسعود فليست إليه القيادة حتى يصدر هذه الأوامر اهـ.
وقد ذكر الدكتور يحيى في مقدمة رسالته خمس اعتبارات تهم دارس التاريخ، فنرجو مراجعتها للفائدة ( ص 9 : 11).
وقال أبو عبد الله الذهبي في (صدق النبأ في بيان حقيقة عبد الله بن سبأ): لم يثبت من طريق صحيح يمكن أن يعول عليه، أنهم ضربوه ونتفوا شعر وجهه رضي الله عنه. والصحابة الكرام رضي الله عنهم يتنزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة. وهذه من روايات أبي مخنف الكذاب. اهـ.
وإذا تقرر هذا، فإننا ننبه على أن الطعن في الصحابة الكرام رضي الله عنهم بمثل هذه الروايات المنكرة الواهية لا يضر إلا صاحبه، سواء في الدنيا أو في الآخرة. فقد أثنى الله عليهم وأعلى من شأنهم في كتابه. وقد سبق لنا بيان مكانة الصحابة وأن عدالتهم محل إجماع، في الفتويين: 47533، 102548.
والله أعلم.