الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد أجمع أهل العلم على أنه لا يصوم أحد عن أحد في حياته، وأنه لو صام عنه ما اجزأه ولا أسقط عنه الواجب. قال الإمام النووي -يرحمه الله- في شرحه على مسلم: وقال القاضي: وأصحابنا أجمعوا على أنه لا يصلى عنه -أي الميت- صلاة فائتة، وعلى أنه لا يصام عن أحد في حياته، وإنما الخلاف في الميت، انتهى.
وقال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: ولا يصح الصوم عن حي بلا خلاف معذوراً كان أو غيره، انتهى، واختلفوا في الصوم عن الميت على ثلاثة أقوال، قال الإمام النووي -يرحمه الله- في شرحه على مسلم:اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو نذر أو غيره هل يقضى عنه؟ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران، أشهرهما "لا يصام عنه ولا يصح عن ميت صوم أصلاً" والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه ويصح صومه عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى إطعام عنه. وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة (يقصد ما رواه مسلم وغيره "من مات وعليه صوم صام عنه وليه")، وأما الحديث الوارد: من مات وعليه صيام أطعم عنه. فليس بثابت، ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على جواز الأمرين، فإن من يقول بالصيام يجوز عنده الإطعام فثبت أن الصواب المتعين تجويز الصيام وتجويز الإطعام والولي مخير بينهما.... هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وممن قال به من السلف طاووس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد -خصوه- في صوم النذر دون رمضان وغيره. وذهب الجمهور إلى أنه لا يصام عن ميت لا نذر ولا غيره حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وعائشة ورواية عن الحسن والزهري وبه قال مالك وأبو حنيفة قال القاضي عياض هو قول جمهور العلماء، وتأولوا الحديث على أنه يطعم عنه وليه وهذا تأويل ضعيف بل باطل وأي ضرورة إليه وأي مانع يمنع من العمل بظاهره مع تظاهر الأحاديث مع عدم المعارض لها، انتهى.
واختلف العلماء أيضاً في وصول ثواب من صلى أو صام وأهدى ثواب ذلك لغيره حياً أو ميتاً، فذهب جمهور أهل العلم إلى عدم جواز إهداء ثوابهما وعدم وصول ثوابه، وذهب الحنفية والحنابلة إلى صحة ذلك وانتفاع المهدى له بالثواب حياً كان أو ميتاً، قال الزيلعي -رحمه الله- في تبيين الحقائق تحت باب الحج عن الغير: الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره، عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صوماً أو حجاً أو صدقة أو قراءة قرآن أو الأذكار إلى غير ذلك من جميع أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه، انتهى.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز ويصل ثوابه إليهم عند أهل السنة والجماعة، انتهى.
وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالصدقة على الميت، وأمر أن يصام عنه الصوم، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة وكذلك ما جاءت به السنة في الصوم عنهم وبهذا وغيره احتج من قال من العلماء إنه يجوز إهداء ثواب العبادات المالية والبدنية إلى موتى المسلمين كما هو مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي فإذا أهدي لميت ثواب صيام أو صلاة أو قراءة جاز ذلك، وأكثر أصحاب مالك والشافعي يقولون إنما يشرع ذلك في العبادات المالية، ومع هذا فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً وصاموا وحجوا أو قرءوا القرآن يهدون ثوب ذلك لموتاهم المسلمين ولا لخصوصهم، بل كان عادتهم كما تقدم فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل، انتهى.
والله أعلم.