الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يزل علماء المسلمين ـ أثابهم الله ـ يجلبون بخيلهم ورجلهم على كل من عارض السنن الثابتة بالآراء الفاسدة والعقول السمجة الباردة، وقد أبلوا في ذلك أحسن بلاء، فأوضحوا الحجة وبينوا المحجة ولم يدعوا لقائل مقالا فجزاهم الله خيرا، ومما سلكوه في ذلك من الطرائق لدحض باطلهم بيان أن الله تعالى إنما تعبدنا بالوحي الذي نطق به رسوله صلى الله عليه وسلم كتابا وسنة، ولم يرجعنا الله تعالى في تلقي الأحكام إلى العقول والآراء ولا إلى الأذواق والمواجيد، فمن تمسك بالوحي فهو السعيد الموفق، ومن حاد عن هذه الجادة فعلى نفسه جنى.
قال ابن القيم: وأصل كل بلية كما قال محمد الشَّهْرَسْتَانِيُّ: مِنْ مُعَارَضَةِ النَّصِّ بِالرَّأْيِ وَتَقْدِيمِ الْهَوَى عَلَى الشَّرْعِ، وَالنَّاسُ إِلَى الْيَوْمِ فِي شُرُورِ هَذِهِ المعارضة وشؤم عاقبتها. انتهى.
وقال أيضا: إن الله سبحانه قد أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً {الفرقان1} وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ { الأنعام19} فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله به، وقال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ {النساء165} وقال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {الإسراء15} وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ{الملك9ـ 8} وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ { الملك11ـ 10} وقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ { الزمر71} وقال: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا {الأنعام130} فلو كان كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين والعلم, والعقل معارض للنقل فأي حجة تكون قد قامت على المكلفين بالكتاب والرسول وهل هذا القول إلا مناقض لإقامة حجة الله على خلقه بكتابه من كل وجه وهذا ظاهر لكل من فهمه ولله الحمد. انتهى.
وقال أيضا عليه الرحمة: وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ـ فهذا نص صريح في أن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحصل بالوحي، فيا عجبا! كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟! ولكن: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ـ فأي ضلال أعظم من ضلال من زعم أن الهداية لا تحصل بالوحي ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيد وعمرو ولقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى والحمد لله رب العالمين، وقال تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ـ فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله ونهي عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل. واتباع أولياء من دونه. فانه لم يجعل بينهما واسطة فكل من لا يتبع الوحي فإنما يتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به. انتهى.
ونصوص الوحي الدالة على وجوب الرد إلى الله والرسول والتحاكم إلى النصوص أكثر من أن تحصر، وبيان العلماء لهذا وذمهم لمعارضي النصوص بآرائهم في غاية من الكثرة والانتشار، ومن طرقهم في ذلك أن يبينوا ألا تعارض أصلا بين عقل صريح ونقل صحيح، فإذا ثبت النص لم يمكن أن يكون بينه وبين صريح العقل معارضة البتة، وذلك بدهي فإن منزل الشرع وخالق العقل هو الله وحده لا شريك له، وغاية ما يكون في هذا الباب أن تأتي النصوص بما تعجز العقول عن إدراك كيفيته لكن لا سبيل لها إلى الجزم بانتفائه، ومن ثم قيل: إن الشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالات العقول، قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا وهي باطل وعارضوا بها النبوات وما جاءت به والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم، وقد يقترب من كل من الطائفتين بعض أهل الحديث تارة بعزل العقل عن محل ولايته وتارة بمعارضة السنن به. انتهى.
وقال أيضا: الأنبياء عليهم السلام قد يخبرون بما يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، لَا بِمَا يَعْلَمُ الْعَقْلُ بُطْلَانَهُ، فَيُخْبِرُونَ بِمُحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ. انتهى.
ومنها بيان تناقض أصحاب هذا المذهب وبيان بطلان زعمهم بحجج عقلية من جنس ما يحتجون به، بل أوضح، وبيان أنهم مخالفون لمقتضى العقل، وقد برع شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هذا الباب يقول ابن القيم رحمه الله: فأقام الله لدينه شيخ الْإِسْلَامِ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ تَيْمِيَّةَ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، فَأَقَامَ عَلَى غَزْوِهِمْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ بِالْيَدِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَكَشَفَ لِلنَّاسِ بَاطِلَهُمْ وَبَيَّنَ تَلْبِيسَهُمْ وَتَدْلِيسَهُمْ، وَقَابَلَهُمْ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، وَشَفَى وَاشْتَفَى، وَبَيَّنَ تُنَاقُضَهُمْ وَمُفَارَقَتَهُمْ لِحُكْمِ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَدُلُّونَ وَإِلَيْهِ يَدْعُونَ، وَأَنَّهُمْ أَتْرَكُ النَّاسِ لِأَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ، فَلَا وَحْيَ وَلَا عَقْلَ، فَأَرْدَاهُمْ فِي حُفَرِهِمْ، وَرَشَقَهُمْ بِسِهَامِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّ صَحِيحَ مَعْقُولَاتِهِمْ خَدَمٌ لِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا. انتهى.
وما ذكرناه إنما هو غيض من فيض، وإلا فالبحث طويل الذيل جدا لا تتسع لبسطه والإحاطة به فتيا مختصرة، وإن شئت الزيادة فارجع إلى درء التعارض لشيخ الإسلام، وفي الصواعق المرسلة لابن القيم فصل نافع نفيس في الرد على المحتجين بالعقل على خلاف الشرع كسر فيه هذا الطاغوت وهو قولهم إن تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل فأطال وأطاب رحمه الله.
والله أعلم.