الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمراد أبي حامد رحمه الله من تطهير السر قد أوضحه الزبيدي شارح الإحياء وعبارته: (المرتبة الرابعة تطهير السر) وهو باطن القلب (عما سوى الله تعالى) بحيث لا يخطر فيه خاطر لغير الله تعالى (وهى طهارة الأنبياء) صلوات الله عليهم فإنهم دائما فى مشاهدة الحق لا ينظرون الى سوى الله تعالى (و) كذلك طهارة (الصديقين). انتهى.
فتبين أنه يريد بتطهير السر حراسة الخواطر بحيث لا يكون له فكرة إلا في مراضي الله سبحانه وما يقرب إليه، وقد تكلم ابن القيم رحمه الله على أهمية حراسة الخواطر الذي عبر عنه الغزالي بتطهير السر وبين سبيل تحصيل ذلك وضابط الانتفاع به، ونحن نسوق كلامه بطوله من طريق الهجرتين لما فيه من النفع العظيم، قال رحمه الله: قاعدة: فى ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، وهى شيئان: أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء، لأنها هى بذر الشيطان، والنفس فى أَرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأَعمال، ولا ريب أن دفع الخواطر أَيسر من دفع الإِرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت فى حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها، فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟ قلت: أسباب عدة: أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك. الثانى: حياؤك منه. الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر فى بيته الذي خلقه لمعرفته ومحبته. الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر. الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته. السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويستعر شرارها فتأْكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر. السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر. الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلاً، بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة فأَخرجتها واستوطنت مكانها، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه. التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب فى غمراته غرق فيه وتاه فى ظلماته فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلاً، فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد. العاشر: أن تلك الخواطر هى وادي الحمقى وأَماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته وأَلقته فى الأسر الطويل كما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية. فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هي أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب، وسقيت مرة بعد مرة، وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات، واستقر بها الملك في سلطانه واستقامت له رعيته، ولهذا لما تحققت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، وكان ذلك هو سيرها وجل عملها وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما: أن لا يترك به واجباً، ولا سنة، الثاني: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإِيمان والمحبة والإِنابة والتوكل والخشية فيفرّغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضدادها. انتهى.
والله أعلم.