الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرته من أن الإيمان بالقدر على الوجه الصحيح لا يورث ما ذكرت من التكاسل وعدم الجد والنشاط في العمل صحيح، وليس الحل لما أنت فيه أن تعرض عن استشعار قدر الله السابق وإنما الحل أن تؤمن بالقدر على وجهه الصحيح، فالإيمان بالقدر والتوكل على الله من أعظم الأسباب وأنفعها للعبد، فأنت مأمور بأن تأخذ بما قدرت عليه من الأسباب الحسية، فتشغل جوارحك بما وظيفتها الاشتغال به وهو السعي والحركة، ويكون قلبك معلقا بربك لا بغيره عالما أنه لا يصيبك إلا ما قدره لك وقضاه، ولذلك قيل في تعريف التوكل كما في مدارج السالكين: إنه سكون بلا اضطراب واضطراب بلا سكون. ومعناه أن القلب يسكن فلا يتعلق بغير الله ولا يتوجه إلى غيره تفويضا له سبحانه وعلما أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأما الجوارح فإنها تضطرب وتتحرك في السعي لا تفتر عن ذلك ركونا إلى القدر السابق فإن هذا هو العجز والحمق، والعاقل الكيس لا يعارض بين القدر السابق والأخذ بالأسباب فإن الأسباب والمسببات من قدر الله تعالى، بل يتبع وصية النبي صلى الله عليه وسلم القائل: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. فأمر بالأخذ بالأسباب والاجتهاد في ذلك وعدم العجز ، وأمر بالاستعانة بالله التي هي من أقوى الأسباب فإنه لا يكون شيء إلا بتقديره سبحانه وبحمده. وخذ هذه الوصية الجامعة من ابن القيم رحمه الله لعلها تضبط لك هذا الباب، يقول رحمه الله: على العبد أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَنَّ السَّبَبَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ، وَلَا يَقْضِي وَلَا يَحْكُمُ، وَلَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ تَسْبِقْ لَهُ بِهِ الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ مَا سَبَقَ بِهِ الْحُكْمُ وَالْعِلْمُ، فَيَأْتِي بِالْأَسْبَابِ إِتْيَانَ مَنْ لَا يَرَى النَّجَاةَ وَالْفَلَاحَ وَالْوُصُولَ إِلَّا بِهَا، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ مَنْ يَرَى أَنَّهَا لَا تُنْجِيهِ، وَلَا تُحَصِّلُ لَهُ فَلَاحًا، وَلَا تُوصِلُهُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَيُجَرِّدُ عَزْمَهُ لِلْقِيَامِ بِهَا حِرْصًا وَاجْتِهَادًا، وَيُفْرِغُ قَلْبَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَالرُّكُونِ إِلَيْهَا، تَجْرِيدًا لِلتَّوَكُّلِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ يَقُولُ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ» فَأَمَرَهُ بِالْحِرْصِ عَلَى الْأَسْبَابِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِالْمُسَبِّبِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: تَقْصِيرٌ فِي الْأَسْبَابِ، وَعَدَمُ الْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَتَقْصِيرٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَتَرْكُ تَجْرِيدَهَا، فَالدِّينُ كُلُّهُ - ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، شَرَائِعُهُ وَحَقَائِقُهُ - تَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ النَّبَوِيَّة. انتهى.
والله أعلم.