الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإننا نحسب إن شاء الله أنك لا تعتقد مضمون هذا الكلام الخطير، ولكنها وساوس كما ذكرت، وهي من كيد الشيطان للإنسان ليفسد عليه دينه ويجعله من حزبه الخاسرين ويكون معه في النار وبئس المصير، ومن جال بخاطره شيء منها فالواجب عليه مدافعتها والاستعاذة بالله من الشيطان الرحيم. وانظر الفتوى رقم 52270.
ولا يصدر مثل هذا القول إلا عمن لم يدر ما الله، ولم يؤمن بعظمته وجلاله وكماله، ولم يعرفه بأسمائه وصفاته وآياته الكونية والشرعية، لأنه إذا عرف قدره لم يحاول أن يفرض عليه شيئا ويقول لماذا فعل كذا أو لماذا لم يفعل كذا، فهو الحكيم الخبير يحكم لا معقب لحكمه، وهو يخلق ما يشاء ويختار، فلم يجعل الخيرة لعباده قال سبحانه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. [القصص:68]، وهو العليم الحكيم سبحانه لا تصدر أفعاله إلا عن حكمة.
فرحمة الله تعالى ورأفته وحلمه وعفوه ونحو ذلك من صفاته، لا يصح أن تفصل عن علمه وحكمته وعدله وعزته وجبروته وانتقامه ونحو ذلك من صفاته؛ فإن قضاء الله وقدره يجري بمقتضاها جميعا، وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين فيدخلون الجنة، حيث قال: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. {السجدة:13}. ولو فعل لكان ذلك منه فضلا، ولكن اقتضت حكمته أن يترك الخلق للابتلاء والامتحان، وهيأ الإنسان بوسائل الفهم فخلق له السمع والبصر والفؤاد، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبين سبيل الخير وسبيل الشر، وهذا منه عدل.
قال ابن عاشور في كتابه التحرير والتنوير عند تفسير آية السجدة هذه: فإن مقتضى الاستدراك أن يقدر: ولكنا لم نشأ ذلك بل شئنا أن نخلق الناس مختارين بين طريقي الهدى والضلال، ووضعنا لهم دواعي الرجاء والخوف، وأريناهم وسائل النجاة والارتباك بالشرائع، قال تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد: 10) أي: الطريقين... اهـ.
فالخلق إذن دائرون بين عدل الله وفضله، وما أحسن ما نسب إلى الشافعي رحمه الله من قوله:
إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع
والله تعالى لا يحب أن يعذب عباده كما قال: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا {النساء:147}، فهو إذن يحب منهم الإيمان والطاعة ليدخلوا الجنة، فإذا عتى الإنسان وتمرد وأبى إلا الكفر والمعاصي فلا يلومن إلا نفسه ولا يلقي اللوم على ربه.
واعلم أن الله تعالى يخلق خلقا يوم القيامة فيدخلهم الجنة من غير عمل عملوه كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة. فكيف يقال إذن إنه لا يحب أن يدخل عباده الجنة؟! وتعذيبه لمن يستحق العذاب من خلقه بسبب ما كسبت يداه لا ينافي كونه رحيما ودودا وأنه متصف بذلك، فهو يرحم من يستحق الرحمة ويعذب من يستحق العذاب. ومثل هذا موجود في الخلق - ولله المثل الأعلى - فإذا وجد سلطان على وجه الأرض يكرم المطيعين ويقسو على العتاة المجرمين لمدحه كل عاقل، ولم يجعل ذلك موجبا لذمه، فإذا كان هذا في حق المخلوق فكيف بالخالق العظيم الجليل سبحانه وتعالى؟!
والله أعلم.