الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن للمعاصي أثرا عظيما في إزالة النعم وإحلال النقم، وأن المتعرض لمعصية الله تعالى متعرض لسلب نعمته عليه لأنه لم يحطها بطاعته وشكره، وقد بين العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذا المعنى فقال ما عبارته: وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ: أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ وَتُحِلُّ النِّقَمَ، فَمَا زَالَتْ عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا نَزَلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ { سُورَةُ الشُّورَى: 30} وَقَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ { سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 53} فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ، فَيُغَيِّرُ طَاعَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ وَشُكْرَهُ بِكُفْرِهِ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ بِأَسْبَابِ سُخْطِهِ، فَإِذَا غَيَّرَ غَيَّرَ عَلَيْهِ، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ، غَيَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ بِالْعَافِيَةِ، وَالذُّلَّ بِالْعِزِّ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ { سُورَةُ الرَّعْدِ: 11} وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ، عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أُحِبُّ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أَكْرَهُ، إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى مَا يَكْرَهُ وَلَا يَكُونُ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أَكْرَهُ، فَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أُحِبُّ، إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ. انتهى.
وقاعدة الشرع والقدر أن الجزاء من جنس العمل، بهذا مضت سنة الله في خلقه، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: وَقَدْ دَلَّ الْكِتَاب وَالسُّنَّة فِي أَكْثَر مِنْ مِائَة مَوْضِع عَلَى أَنَّ الْجَزَاء مِنْ جِنْس الْعَمَل فِي الْخَيْر وَالشَّرّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: جَزَاء وِفَاقًا ـ أَيْ: وَفْق أَعْمَالهمْ، وَهَذَا ثَابِت شَرْعًا وَقَدْرًا. انتهى.
على أن الله تعالى قد يعجل عقوبة العبد في الدنيا وقد يؤخرها لما يدخره له من عقوبة الآخرة وقد يرحمه ويعافيه ويوفقه للتوبة أو يعفو عنه بما له من حسنات ماحية أو غير ذلك مما تقتضيه الرحمة والحكمة والمصلحة، فإن أفعال الرب تعالى دائرة بين العدل والحكمة والفضل والرحمة، فعلى العبد أن يكون على حذر من المعاصي وأن يبادر بتوبة نصوح تقيه آثار تلك المعاصي وتحفظ ما بيديه من نعم الله تعالى.
والله أعلم.