الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالحديث الذي أشار إليه السائل رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم, ولفظ الترمذي: إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ.
وهذا الحديث يدل على أن الابتلاء علامة من علامات حب الله للعبد، وفيه الترغيب في الصبر على المصائب بعد وقوعها، وليس المقصود منه تمني المصائب. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه. هـ.
ولكن لا يدل هذا الحديث على أن الله لا يحب أهل العافية أيضا بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسأل الله العافية فقال: سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ عَبْدٌ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ الْعَافِيَةِ. رواه أحمد في المسند.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله العافية صباحا ومساء، ففي سنن أبي داود من حديث ابْنَ عُمَرَ قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي.
فلو كان الله لا يحب إلا المبتلين بالمصائب لما سأل رسول الله صلى الله عليه ربه العافية, ولما أمرنا بسؤال الله إياها قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: ولا نعلم أن أحداً من الأنبياء ولا من صحابتهم ولا العباد ولا المجتهدين كان يقول: اللهم أفقرني ولا أزمني ولا بذلك استعبدهم الله عز وجل، بل استعبدهم بأن يقولوا: اللهم ارزقني، اللهم عافني وكانوا يقولون: اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن يريدون لا تختبرنا إلا بالخير ولا تختبرنا بالشر، لأن الله تعالى يختبر عباده بهما ليعلم كيف شكرهم وصبرهم. اهـ.
فالله تعالى يحب عباده المؤمنين سواء كانوا من المبتلين أم من المعافين, وكثيرا ما جاء في كتاب الله تعالى الإخبار بأن الله يحب المتقين والمحسنين والمتطهرين والتوابين والمتوكلين والمقسطين وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء من المبتلين بالمصائب, ثم إن البلاء إنما يحمد لكونه تطهيرا للذنوب، فإذا رزق الله العبد العافية من العقوبة من الذنب وغفر له بدون مصائب فهذا فضل الله تعالى، ولذا قال ابن جرير الطبري عن الجمع بين حديث سؤال العافية وحديث: إذا أحب الله عبدا ابتلاه: فإن قلت هذا الخبر يناقض خبر إذا أحب الله عبدا ابتلاه ـ قلت إنما أمر بطلب العافية من كل مكروه يحذره العبد على نفسه ودينه ودنياه، والعافية في الدارين السلامة من تبعات الذنوب، فمن رزق ذلك فقد برئ من المصائب التي هي عقوبات والعلل التي هي كفارات، لأن البلاء لأهل الإيمان عقوبة يمحص بها عنهم في الدنيا ليلقوه مطهرين، فإذا عوفي من التبعات وسلم من الذنوب الموجبة للعقوبات سلم من الأوجاع التي هي كفارات لأن الكفارة إنما تكون لمكفر. اهـ.
فنسأل الله أن يرزقنا العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
والله أعلم.