الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا يستقيم أن يتوقف الإنسان عن الأعمال المأذون فيها لهذه الظنون والأوهام، فإن ذلك من تسليط الشياطين على الناس بإفساد معاشهم وحياتهم, ولقد جعل الله تعالى لنا ما يدفع هذا الشر ويبطله ويطرد الشياطين كقراءة القرآن لا سيما آية الكرسي، وإذا كان العمل فرضا فيحرم تركه لهذه الدعوى، واعلم أن المرء لا يؤاخذ إلا بما جنت يداه ولا يتحمل وزر غيره وأنه إن فعل ما هو مأذون له في فعله لم يضمن ما يترتب عليه من ضرر إن حصل.
وأما مسألة علم الشيطان بما في القلب من إرادة الشر والخير والتي أشرت إليها في سؤالك: فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية ليس صريحا فيها، فقد قال في مجموع الفتاوى: الشيطان يلتقم قلب العبد فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل قلبه عن ذكره وسوس، ويعلم هل ذكر الله أم غفل عن ذكره، ويعلم ما تهواه نفسه من شهوات الغي فيزينها له، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكر صفية ـ رضي الله عنها: أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ـ وقرب الملائكة والشيطان من قلب ابن آدم مما تواترت به الآثار سواء كان العبد مؤمنا، أو كافرا. اهـ.
لكن المسألة محل بحث عند العلماء، وقد سئل الشيخ ابن باز سؤالا طويلا متعلقا بهذا الموضوع، جاء ضمنه قول السائل: إذا نويت عمل خير في قلبي هل يعلم به الشيطان ويحاول صرفي عنه؟ فكان ضمن ما أجاب به الشيخ قوله: كل إنسان معه شيطان ومعه ملك, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ـ وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يملي على الإنسان الشر ويدعوه إلى الشر، وله لمة في قلبه، وله اطلاع ـ بتقدير الله ـ على ما يريده العبد وينويه من أعمال الخير والشر, والملك كذلك له لمة بقلبه يملي عليه الخير ويدعوه إلى الخير، فهذه أشياء مكنهم الله منها، أي مكن القرينين: القرين من الجن، والقرين من الملائكة. اهـ.
وقال الدكتور محمود عبد الرزاق في رسالته: مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية: ويتساءل المحاسبي عما إذا كان الشيطان يعلم ما تحدث به النفس فيعارضها بالصد عن الخير؟ ويقرر أن الشيطان طالت مقارنته للإنسان وتفقده لأحواله حتى لم يخف عليه حاله، فعرف مطالبه ومذاهبه، فعند كل خير صده عنه، هذا من غير علم منه بما يحدث، غير أنه علم أن خيرا قد أحدثه العبد، وكذلك يعلم أن شرا قد أحدثه، لا يعلم أي خير ولا أي شر. اهـ.
قال أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين: اختلفوا هل يعلم الشيطان ما في القلوب أم لا؟ على ثلاث مقالات، فقال إبراهيم ومعمر وهشام ومن اتبعهم: إن الشياطين يعلمون ما يحدث في القلوب، وليس ذلك بعجيب لأن الله عز وجل قد جعل عليه دليلا ومحال أن يدخل الشيطان قلب الإنسان، مثال ذلك أن تشير إلى الرجل: أقبل، أو أدبر، فيعلم ما تريد، فكذلك إذا فعل فعلا عرف الشيطان كيف ذلك الفعل، فإذا حدث نفسه بالصدقة والبر عرف ذلك الشيطان بالدليل، فنهى الإنسان عنه، هكذا حكى زرقان.
قال: وقال آخرون من المعتزلة وغيرهم: إن الشيطان لا يعرف ما في القلب، فإذا حدث الإنسان نفسه بصدقة أو بشيء من أفعال البر نهاه الشيطان عن ذلك على الظن والتخمين.
وقال قائلون: إن الشيطان يدخل في قلب الإنسان فيعرف ما يريد بقلبه. اهـ.
والله أعلم.