الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن شروط الاحتكار عند جمهور أهل العلم أن يكون تملكه للسلعة بطريق الشراء لا الجلب، فلا احتكار فيما جلب مطلقا، وهو ما كان من سوق غير سوق المدينة، أو من السوق الذي اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه.
وذهب بعض المالكية، وهو منقول عن أبي يوسف من الحنفية، إلى أن العبرة إنما هي باحتباس السلع بحيث يضر بالعامة، سواء أكان تملكها بطريق الشراء أو الجلب أو كان ادخارا لأكثر من حاجته ومن يعول. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 30462.
وهذا الأثر الذي ذكره السائل مما يُستدل به للجمهور، وقد رواه الإمام مالك في الموطأ بلاغا، في باب: الحكرة والتربص، عن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله. اهـ.
ورواه ابن شبة في (تاريخ المدينة) والبيهقي في السنن الكبرى من طريق سليمان بن بلال، عن إِسماعيل بن إِبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، عن أَبيه قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِلى السوق، حتى إِذا نزل بسوقنا قام فقال: ما بال أَقوام احتكروا بفضل أذهابهم على الأَرامل والمساكين، فإذا خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكم، ولكن أيما جالب جلب يحمله على عمود كبده في الشتاء والصيف حتى ينزل بسوقنا فذلك ضيف عمر بن الخطاب، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله. اهـ.
قال الباجي في (المنتقى): الناس في ذلك على ضربين: ضرب صار إليه بزراعته أو جلابه به، فهذا لا يمنع من احتكاره ولا من استدامة إمساكه ما شاء، كان ذلك ضرورة أو غيرها، روى ابن المواز عن مالك أنه قال: يبيع هذا متى شاء ويمسك إذا شاء بالمدينة وغيرها. والضرب الثاني من صار إليه الطعام بابتياع بالبلد ... وقوله "ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف" قال عيسى بن دينار: معناه جلب في قلب الشتاء وشدة برده وقلب الصيف وشدة حره، فيلقى النصب في سفره من الحر والبرد. قال القاضي أبو الوليد: معناه على ما يعتمد عليه من كبده، ويريد بذلك إن كان يجلب على ظهره أو على ظهر دابته فأضاف كبدها إليه بحق ملكه لها، واختصاصها به. وقوله "فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله" يريد أن عمر يمنعه ممن أراد إجباره على البيع، وأضاف المشيئة إلى الله لقوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) فلا يشاء الجالب البيع والإمساك إلا أن يشاء الله تعالى. اهـ.
وقال البغوي في (شرح السنة): قال الحسن والأوزاعي: من جلب طعاما من بلد فحبسه ينتظر زيادة السعر، فليس بمحتكر، إنما المحتكر من اعترض سوق المسلمين. وقال أحمد: إذا دخل الطعام من ضيعته فحبسه فليس بمحتكر. اهـ.
وبهذا يتبين أن مذهب جمهور أهل العلم موافق لهذا الأثر، وهو الراجح إن شاء الله تعالى، ولكن هذا لا يتعارض مع جواز أمر الإمام أصحاب السلع بإخراجها وبيعها إذا اشتدت حاجة الناس إليها، وهذا أحد القولين عن الإمام مالك، فنقل الباجي عن كتاب ابن المواز عن مالك: إذا كان في البلد طعام مخزون واحتيج إليه للغلاء فلا بأس أن يأمر الإمام بإخراجه إلى السوق فيباع. ووجه ذلك أنه إنما أبيح لهم شراؤه ليكون عدة للناس عند الضرورة. اهـ.
وفي شرح مختصر خليل للخرشي: ظاهر العتبية وقول ابن رشد: إذا وقعت الشدة أمر أهل الطعام بإخراجه مطلقا، كان من زراعة أو جلب، خلاف ما قال الباجي، فالحاصل أن في المجلوب والمزروع قولين: بالجبر على إخراجه وقت الضرورة، وعدمه، والمعتمد ما أفاده ابن رشد. اهـ.
وفي حاشية (الموسوعة الفقهية): ما ذهب إليه ابن رشد تؤيده قواعد الشريعة العامة، ولا تأباه قواعد المذاهب المختلفة، لكن أيعتبر ذلك احتكارا أم لا ؟ فمن اشترط الشراء لا يعتبره احتكارا، وإن كان يعطي لولي الأمر حق الاستيلاء عليه دفعا للضرر. اهـ.
وقال ابن القيم في (الطرق الحكمية): لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، أو سلاح لا يحتاج إليه والناس يحتاجون إليه للجهاد، أو غير ذلك. اهـ.
والله أعلم.