الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمعاذ الله أن يكون هذان الصحابيان ـ رضي الله عنهما ـ قد قصدا استهزاء، أوما أشبهه وحاشاهما وسائر الصحابة الأخيار من هذا الظن السيء، ومعاذ الله، ثم معاذ الله أن يضحك النبي صلى الله عليه وسلم ممن يستهزئ بالشرع ويسخر من الدين، أو يقر على ذلك، وأي استهزاء يفهم من قولهما، بل هذا من وسوستك وغلوك المذموم في هذا الأمر الذي ندعوك للإقلاع عنه، فأما الأول فإنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحسن الإتيان بما يأتي به هو ومعاذ من الدعاء الكثير الحسن فيقتصر على سؤال الجنة والتعوذ من النار فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو ومعاذ ما يدندنان ولا يكثران الدعاء إلا لأجل هذا وأن دعاءهما كله دائر على هذا المقصد وهو سؤال الله الجنة والتعوذ به من النار، قال شمس الحق في عون المعبود: ولا أعرف ولا أدري دندنة معاذ أي لا أدري ما تدعو به أنت يا رسول الله وما يدعو به معاذ إمامنا ولا أعرف دعاءك الخفي الذي تدعو به في الصلاة ولا صوت معاذ ولا أقدر على نظم ألفاظ المناجاة مثلك ومثل معاذ، وإنما ذكر الرجل الصحابي معاذا والله أعلم، لأنه كان من قوم معاذ، أو هو ممن كان يصلي خلف معاذ، ويدل عليه أن جابر بن عبد الله ذكر قصة الرجل مع قصة إمامة معاذ، والحاصل أي إني أسمع صوتك وصوت معاذ ولكن لا أفهم، قوله: حولها بالإفراد قال المناوي في فتح القدير حولها ـ يعني الجنة ـ ندندن، وفي الرواية الآتية حول هاتين قال ابن الأثير حولهما ندندن والضمير في حولهما للجنة والنار أي حولهما ندندن وفي طلبهما ومنه دندن الرجل إذا اختلف في مكان واحد مجيئا وذهابا وأما عنهما ندندن فمعناه أن دندنتنا صادرة عنهما وكائنة بسببهما. انتهى بتصرف.
وأما الرجل الثاني فقد كان أعرابيا على فطرته وسجيته، ومن كمال تصديقه للخبر وإيمانه بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال ما في دخيلته في بساطة وعفوية استدعت ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشم عاقل رائحة الاستهزاء في هذا الكلام من قريب ولا من بعيد، فنصيحتنا لك أن تتقي الله تبارك وتعالى وأن تترك هذه الوساوس التي تقع بسببها في تكفير معظم الناس وهذا كله وسواس مقيت، وليس فيما ذكرته شيء من الاستهزاء الموجب للكفر، وإن كان تجنب بعض هذا مما ينبغي لما فيه من استعمال القرآن في غير موضعه كقول القائل لمن يلقاه: ثم جئت على قدر يا موسى ـ فإن من العلماء من حرم هذا ومنهم من كرهه، قال في حاشية الروض: ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام، لأنه استعمال له في غير ما هو له، كقوله لمن جاء: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ـ وقال الشيخ: إن قرأ به عند الحكم الذي أنزل له، أو ما يناسبه فحسن، كقوله لمن دعاه لذنب تاب منه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ـ وقوله عندما أهمه: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ـ وقال النووي - عند حديث الشفاعة - وفيه: وقال: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ـ فيه جواز الاستشهاد بالقرآن في مثل هذا الحديث، وفي الصحيح مثله من فعله صلى الله عليه وسلم، لما طرق فاطمة وعليا، ثم انصرف وهو يقول: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ـ ونظائره كثيرة. انتهى.
وسئل علماء اللجنة الدائمة: ما حكم تأول القرآن عندما يعرض لأحد منا شيء من أمور الدنيا، كقول أحدنا عندما يحصل عليه شدة أو ضيق: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ـ عندما يلاقي صاحبه: جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ـ عندما يحضر طعام: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ـ إلى آخر ما هنالك مما يستعمله بعض الناس اليوم؟ فأجابوا: الخير في ترك استعمال هذه الكلمات وأمثالها فيما ذكر، تنزيها للقرآن، وصيانة له عما لا يليق. انتهى
وقد بينا معنى الاستهزاء وحذرنا من الوسوسة في هذا الباب في فتاوى كثيرة وراجع للفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 137826، 137096، 137074، 137818، 136813، 134722، 131591، 122926
والله أعلم.