الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد ورد الأمر بالتصدق من لحوم الأضاحي في قوله صلى الله عليه وسلم: فكلوا وادخروا وتصدقوا. متفق عليه. ووجوب الصدقة من الأضحية هو مذهب الشافعية والحنابلة خلافا للمالكية والحنفية.
قال الإمام النووي وهو شافعي، في شرحه لصحيح مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم: فكلوا وادخروا وتصدقوا: هذا تصريح بزوال النهي عن ادخارها فوق ثلاث، وفيه الأمر بالصدقة منها والأمر بالأكل، فأما الصدقة منها إذا كانت أضحية تطوع، فواجبة على الصحيح عند أصحابنا بما يقع عليه الاسم منها، ويستحب أن تكون بمعظمها، قالوا: وأدنى الكمال أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدي الثلث... اهـ.
وقال النووي أيضا في كتابه المجموع شرح المهذب: وهل يشترط التصدق منها بشيء أم يجوز أكلها جميعا، فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما، أحدهما: يجوز أكل الجميع، قاله ابن سريج وابن القاص والإصطخري وابن الوكيل، وحكاه ابن القاص عن نص الشافعي، قالوا: وإذا أكل الجميع ففائدة الأضحية حصول الثواب بإراقة الدم بنية القربة.
والقول الثاني وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين وهو الأصح عند جماهير المصنفين، ومنهم المصنف في التنبيه يجب التصدق بشيء يطلق عليه الاسم، لأن المقصود إرفاق المساكين، فعلى هذا إن أكل الجميع لزمه الضمان، وفي الضمان خلاف (المذهب) منه أن يضمن ما ينطلق عليه الاسم. اهـ.
وقال البهوتي وهو حنبلي، في كتابه "كشاف القناع": (فإن أكل أكثر) الأضحية أو أهدى أكثرها (أو أكلها كلها) إلا أوقية تصدق بها جاز، (أو أهداها كلها إلا أوقية جاز، لأنه يجب الصدقة ببعضها) نيئا على فقير مسلم لعموم "وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ" (فإن لم يتصدق بشيء) نيء منها (ضمن أقل ما يقع عليه الاسم) كالأوقية (بمثله لحما)، لأن ما أبيح أكله لا تلزمه غرامته، ويلزمه غرم ما وجبت الصدقة به، لأنه حق يجب عليه أداؤه مع بقائه فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة. اهـ
وأما الحنفية فيستحب التصدق من الضحية عندهم ولا يجب كما جاء في بدائع الصنائع : ويستحب له أن يأكل من أضحيته لقوله تعالى عز شأنه: { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير }. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إذا ضحى أحدكم فليأكل من أضحيته ويطعم منه غيره. وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال لغلامه قنبر حين ضحى بالكبشين يا قنبر خذ لي من كل واحد منهما بضعة وتصدق بهما بجلودهما وبرؤوسهما وبأكارعهما. والأفضل أن يتصدق بالثلث ويتخذ الثلث ضيافة لأقاربه وأصدقائه ويدخر الثلث لقوله تعالى: { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر }.
وقوله عز شأنه: { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير }. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا. فثبت بمجموع الكتاب العزيز والسنة أن المستحب ما قلنا ولأنه يوم ضيافة الله عز وجل بلحوم القرابين فيندب إشراك الكل فيها ويطعم الفقير والغني جميعا لكون الكل أضياف الله تعالى عز شأنه في هذه الأيام، وله أن يهبه منهما جميعا ولو تصدق بالكل جاز ولو حبس الكل لنفسه جاز لأن القربة في الاراقة وأما التصدق باللحم فتطوع، وله أن يدخر الكل لنفسه فوق ثلاثة أيام لأن النهي عن ذلك كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: إني كنت نهيتكم عن إمساك لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام ألا فأمسكوا ما بدا لكم. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: إنما نهيتكم لأجل الدافة ( ( الرأفة ) ) ) دون حضرة الأضحى إلا أن إطعامها والتصدق أفضل إلا أن يكون الرجل ذا عيال وغير موسع الحال فإن الأفضل له حينئذ أن يدعه ( ( يدعه ) ) لعياله ويوسع به عليهم ولأن حاجته وحاجة عياله مقدمة على حاجة غيره ...اهـ
والله أعلم.