الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن هذا النوع من النذر مكروه في الأصل على الصحيح، لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: إنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل.
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنذروا، فإن النذر لا يغني من القدر شيئا.
وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر: وَقَدْ ذَكَرَ أَكْثَر الشَّافِعِيَّة - وَنَقَلَهُ أَبُو عَلِيّ السِّنْجِيّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيّ - أَنَّ النَّذْر مَكْرُوه لِثُبُوتِ النَّهْي عَنْهُ وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَالِكِيَّة وَجَزَمَ بِهِ عَنْهُمْ اِبْن دَقِيق الْعِيد، وَأَشَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ إِلَى الْخِلَاف عَنْهُمْ وَالْجَزْم عَنْ الشَّافِعِيَّة بِالْكَرَاهَةِ، قَالَ: وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ طَاعَة مَحْضَة، لِأَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ خَالِص الْقُرْبَة، وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسه، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهَا ضَرَرًا بِمَا اِلْتَزَمَهُ.
وَجَزَمَ الْحَنَابِلَة بِالْكَرَاهَةِ، وَعِنْدهمْ رِوَايَة فِي أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَتَوَقَّفَ بَعْضهمْ فِي صِحَّتهَا، إلى أن قال: وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهِم بِحَمْلِ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيث مِنْ النَّهْي عَلَى نَذْر الْمُجَازَاة، فَقَالَ: هَذَا النَّهْي مَحَلّه أَنْ يَقُول مَثَلًا: إِنْ شَفَى اللَّه مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَدَقَة كَذَا، وَوَجْه الْكَرَاهَة أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ فِعْلَ الْقُرْبَة الْمَذْكُور عَلَى حُصُول الْغَرَض الْمَذْكُور ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّض لَهُ نِيَّة التَّقَرُّب إِلَى اللَّه تَعَالَى لِمَا صَدَرَ مِنْهُ، بَلْ سَلَكَ فِيهَا مَسْلَك الْمُعَارَضَة، وَيُوَضِّحهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْفِ مَرِيضه لَمْ يَتَصَدَّق بِمَا عَلَّقَهُ عَلَى شِفَائِهِ، وَهَذِهِ حَالَة الْبَخِيل فَإِنَّهُ لَا يُخْرِج مِنْ مَاله شَيْئًا إِلَّا بِعِوَضٍ عَاجِلٍ يَزِيد عَلَى مَا أَخْرَجَ غَالِبًا.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُشَار إِلَيْهِ فِي الْحَدِيث لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا يُسْتَخْرَج بِهِ مِنْ الْبَخِيل مَا لَمْ يَكُنْ الْبَخِيلُ يُخْرِجهُ ـ قَالَ: وَقَدْ يَنْضَمّ إِلَى هَذَا اِعْتِقَاد جَاهِل يَظُنّ أَنَّ النَّذْر يُوجِب حُصُول ذَلِكَ الْغَرَض، أَوْ أَنَّ اللَّه يَفْعَل مَعَهُ ذَلِكَ الْغَرَض لِأَجْلِ ذَلِكَ النَّذْر، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيث ـ أَيْضًا ـ فَإِنَّ النَّذْر لَا يَرُدّ مِنْ قَدَر اللَّه شَيْئًا، وَالْحَالَة الْأُولَى تُقَارِب الْكُفْر وَالثَّانِيَة خَطَأ صَرِيح، قُلْت: بَلْ تَقْرُب مِنْ الْكُفْر ـ أَيْضًا ـ ثُمَّ نَقَلَ الْقُرْطُبِيّ عَنْ الْعُلَمَاء حَمْل النَّهْي الْوَارِد فِي الْخَبَر عَلَى الْكَرَاهَة وَقَالَ: الَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّهُ عَلَى التَّحْرِيم فِي حَقّ مَنْ يُخَاف عَلَيْهِ ذَلِكَ الِاعْتِقَاد الْفَاسِد فَيَكُون إِقْدَامه عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا، وَالْكَرَاهَة فِي حَقّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِد ذَلِكَ. انتهى.
وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَيُؤَيِّدهُ قِصَّة اِبْن عُمَر رَاوِي الْحَدِيث فِي النَّهْي عَنْ النَّذْر فَإِنَّهَا فِي نَذْر الْمُجَازَاة. انتهى.
وراجع الفتوى رقم: 66839
وبما أنك لم تسم النذر فتكفيك كفارة اليمين، كما قال الرحيباني في مطالب أولي النهى: وأنواع النذر المنعقدة ستة:
أحدها: النذر المطلق كقوله: لله علي نذر، أو إن فعلت كذا فلله علي نذر ـ ولا نية له تخصص بمحل، أو زمن وفعله أي: ما علق عليه نذره فعليه كفارة يمين، لحديث عقبة بن عامر مرفوعا: كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين. رواه ابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح غريب . اهـ.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي عند شرح هذا الحديث: قوله: كفارة النذر إذا لم يسم ـ أي لم يعينه الناذر بأن قال إني نذرت نذرا، أو علي نذر ولم يعين أنه صوم، أو غيره كفارة يمين فيه دليل على أن كفارة اليمين إنما تجب فيما كان من النذور غير مسمى. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 53933
ثم إن النذر المنعقد لا يصح التراجع عنه، ولا يجوز تغييره إلا عند العجز عن الوفاء به على الوجه المنذور فتكفي فيه كفارة اليمين، وراجع الفتوى رقم: 124954.
والله أعلم.