الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالسحر من أعظم الذنوب جرما وأشدها حرمة، وقد ثنَّى به النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشرك بالله تعالى فقال: اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. متفق عليه.
وقد حكم الله تعالى بأن الساحر ليس له في الآخرة من نصيب فقال: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {البقرة: 102}.
ومع ذلك فلو تاب الساحر توبة صادقة مستجمعة لشروط قبولها، فإن ذلك ينفعه في الآخرة حتما، وأما في أحكام الدنيا ففي ذلك خلاف بين أهل العلم، كما سبق بيانه في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 5960، 11141، 5523.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): الخلاف في قبول توبة هذه الطوائف إنما هو في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرا أو باطنا فلا خلاف فيه، فإن الله تعالى لم يسد باب التوبة عن أحد من خلقه، وقد قال في المنافقين: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما} اهـ.
ومعلوم أن من شروط التوبة إن كان الذنب يتعلق بحق آدمي أن يستحل منه أو يرد إليه حقه بقدر طاقته.
جاء في (الموسوعة الفقهية): لا بد من التنبيه على أن الإقلاع عن الذنب لا يتم إلا برد الحقوق إلى أهلها، أو باستحلالهم منها في حالة القدرة ... ورد الحقوق يكون حسب إمكانه، فإن كان المسروق أو المغصوب موجودا رده بعينه، وإلا يرد المثل إن كانا مثليين والقيمة إن كانا قيميين، وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر عليه، وتصدق به على الفقراء بنية الضمان له إن وجده. فإن كان عليه فيها حق، فإن كان حقا لآدمي كالقصاص اشترط في التوبة التمكين من نفسه وبذلها للمستحق هـ.
فإن استحل الساحر ذوي الحقوق فأحلوه وعفوا عن حقهم، وحقق مع ذلك بقية شروط التوبة من ترك الذنب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العود، فإنه بذلك تبرأ ذمته في الآخرة ويكون من أهل العفو إن شاء الله.
وأما إن استحلهم فلم يحلوه ولم يسامحوه، فإن الحكم يكون باعتبار إمكان التدارك، فما وقع على المرء من ظلم وتعد بسبب السحر وكان يمكن تداركه برد الحق والتعويض عنه أو حصول القصاص، ففعل الساحر التائب ذلك ومكَّن منه خصومه، فقد برئت ذمته. ويبقى الإشكال في ما لا يمكن تداركه كحصول الموت أو مرض مزمن كالجنون، أو حصول الطلاق بسبب السحر، ونحو ذلك، فأمر الساحر في ذلك إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه ورضَّى عنه خصومه يوم القيامة، وإن شاء آخذه بالمقاصة من حسناته وذنوب خصومه، فيعطى خصومه من حسناته بقدر مظلمتهم أو يحمل هو من سيئاتهم بقدرها، كما جاء في حديث المفلس، وراجع ذلك في الفتويين: 3964، 22000 .
والله أعلم.