الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلمي أن حديث النفس ولو طال في الصلاة لا يبطلها، وأن عروض الفكر للمصلي في أثنائها لا يؤثر في صحتها، وأن الخشوع فيها والإقبال عليها مستحب بل هو من آكد المستحبات ولكن الإخلال به ليس مبطلا للصلاة، وقد دلت على ذلك أحاديث كثيرة.
قال النووي في شرح المهذب: يستحب الخشوع في الصلاة والخضوع وتدبر قراءتها وأذكارها وما يتعلق بها والإعراض عن الفكر فيما لا يتعلق بها، فإن فكر في غيرها وأكثر من الفكر لم تبطل صلاته لكن يكره سواء كان فكره في مباح أو حرام كشرب الخمر، وقد قدمنا حكاية وجه ضعيف في فصل الفعل من هذا الباب أن الفكر في حديث النفس إذا كثر بطلت الصلاة وهو شاذ مردود، وقد نقل الإجماع على أنها لا تبطل، وأما الكراهة فمتفق عليها، وقد سبقت هذه المسألة بأدلتها من الأحاديث الصحيحة الكثيرة في المسائل المنثورة في آخر باب صفة الصلاة، ومما استدلوا به على أنها لا تبطل بالفكر حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به. رواه البخاري ومسلم. وعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه: قال: صليت مع النبي صلي الله عليه وسلم العصر فلما سلم قام سريعا ودخل على بعض نسائه ثم خرج ورأى في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته فقال: ذكرت وأنا في الصلاة تبرا عندنا فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا فأمرت بقسمته. رواه البخاري. انتهى.
ومن الأدلة على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الإنبجانية: إنها ألهتني آنفا في صلاتي. وقوله في قرام عائشة: فإن تصاويره لم تزل تعرض لي في صلاتي. ونحو ذلك من الأدلة الدالة على أن عروض الفكر في أمور الدنيا أثناء الصلاة لا يفسدها، فإذا علمت هذا فاعلمي أن بعض العلماء استحب إعادة الصلاة إذا ترك الخشوع فيها، وبعضهم لم يستحب ذلك.
قال في مواهب الجليل حاكيا القولين: ولعل هذه المسألة تجري على مسألة من يتكرر منه إعادة الصلاة لكثرة العوارض من القبلة وترك الخشوع وغير ذلك، وهي مسألة اختلف فيها القرويون هل ذلك محمود أو من باب التعمق في الدين. انتهى.
وقد يفهم من كلام الشافعية استحباب إعادة الصلاة التي غلب عليها الفكر في أمور الدنيا والاسترسال مع حديث النفس، فإنهم صرحوا باستحباب إعادة كل صلاة اختلف في بطلانها، ليأتي بها على وجه لا خلاف فيه، والخلاف في وجوب الخشوع وبطلان الصلاة بتركه مشهور.
قال في حاشية الجمل: وتندب إعادة الصلاة الواقعة في الحمام ولو منفردا للخروج من خلاف الإمام أحمد، وكذا كل صلاة اختلف في صحتها يستحب إعادتها على وجه يخرج به من الخلاف ولو منفردا وخارج الوقت. انتهى.
والذي يظهر لنا والعلم عند الله تعالى أنك لا تعيدين الصلاة في الحال المذكورة، ما دامت قد استوفت شروطها وأركانها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إعادة الصلاة في يوم مرتين. أخرجه النسائي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. فهذا الحديث عام ولا يستثنى منه إلا ما خصه الدليل كإعادة الصلاة في جماعة.
قال في فيض القدير: لا تصلوا صلاة لفظ رواية أحمد لا تصلى صلاة وفي رواية لا تعاد الصلاة في يوم مرتين أي لا تفعلوها ترون وجوب ذلك، ولا تقضوا الفرائض لمجرد مخافة الخلل في المؤدى، أما إعادة المنفرد الصلاة في جماعة فجائز بل سنة في جميع الصلوات عند الشافعي حتى المغرب خلافا لأحمد. انتهى.
وأيضا فإنه لا يؤمن أن يقع لك في المعادة نظير ما وقع لك أولا فيطول ذلك بك ويوقعك في الحرج، وقد يؤدي بك إلى الوسواس الذي هو من شر الأدواء، وأيضا فإن عروض الفكر للمصلي مما لا يكاد يخلو منه أحد، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من عرض له ذلك بإعادة الصلاة مع عموم البلوى به، ولكن عليك أن تجاهدي نفسك في تحصيل الخشوع في الصلاة وطرح الأفكار التي تعرض لك فيها، واجبري ما يحصل من خلل فيها أو نقص بالإكثار من النوافل فإنها تجبر نقص الفرائض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك. رواه الترمذي وقال حسن غريب والنسائي، وابن ماجه عن أبى هريرة رضي الله عنه.
والله أعلم.