الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاتهام الأنبياء بالسحر، وحمل معجزاتهم عليه، من صفات الكافرين المطردة، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ {سبأ: 43} حتى إن فرعون الذي جمع السحرة لمواجهة نبي الله موسى عليه السلام، لم يجد ما يقوله لما آمن السحرة إلا هذه التهمة النكراء، فقال: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ {طه: 71}.
وهكذا فعل أهل مكة طلبوا آية من النبي صلى الله عليه وسلم فأراهم انشقاق القمر، فعن أنس رضي الله عنه: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما. متفق عليه.
ومع ذلك أبوا إلا العناد ولم يجدوا للخروج من ذلك إلا الاتهام بالسحر، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * {القمر:1-2}
قال السعدي: من أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صحة ما جاء به وصدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر بإذن الله تعالى، فانشق فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية الكبرى الكائنة في العالم العلوي، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل. فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره، فانبهروا لذلك، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يرد الله بهم خيرا، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا محمد، ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من قدم إليكم من السفر، فإنه وإن قدر على سحركم، لا يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبرهم بوقوع ذلك، فقالوا: { سحر مستمر } سحرنا محمد وسحر غيرنا، وهذا من البهت الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها، بل كل آية تأتيهم، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالباطل. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (النبوات): من المعلوم بالفطرة الضرورية لجميع بني آدم أن الله لا يكذب، ولا يفعل القبائح؛ فلا يؤيد الكذاب بآيته ليضل بها الناس، لكن قالوا (يعني المشركين والصادين عن آيات الله) ليست آية من الله، بل هي سحر من عندك. وهم وإن كانوا قد يعلمون أن الله خالق كل شيء، ففرق بين ما يفعله البشر، ويتوصلون إليه بالاكتساب، وبين ما لا قدرة لهم على التوصل إليه بسبب من الأسباب، وفرق بين ما قد علموا أنه يخلقه لغير تصديق الرسل كالسحر؛ فإنه لم يزل معروفا في بني آدم، فقد علموا أنه لا يخلقه آية وعلامة لنبي؛ إذ كان موجودا لغير الأنبياء معتادا منهم، وإن كان عجيبا خارجا عن العادة عند من لم يعرفه، بل كان المكذبون يطالبون الرسل بالآيات؛ كقول فرعون: (فأت بآية إن كنت من الصادقين). وقول قوم صالح له: {إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين}. وكانت الأنبياء تأتي بالآيات، وهي آيات بينات؛ فيكذبون بها؛ كما يكذب المعاند بالحق الظاهر المعلوم؛ كما قال فرعون: إنه ساحر. ولما غُلب السحرة وآمنوا واعترفوا بأن هذه آية من الله، قال لهم فرعون: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها} وهذا كذب ظاهر؛ فإن موسى جاء من الشام، ولم يجتمع بالسحرة، إنما فرعون جمعهم، ولم يكن دين موسى دين السحرة، ولا مقصوده مقصودهم، بل هم وهو في غاية التعادي والتباين. وكذلك سائر السحرة والكهنة مع الأنبياء من أعظم الناس ذما لهم، وأمرا بقتلهم، مع تصديق الأنبياء بعضهم ببعض، وإيجاب بعضهم الإيمان ببعض. وهم يأمرون بقتل من يكذب نبيا ويأمرون بقتل السحرة، ومن آمن بهم. والسحرة يذم بعضهم بعضا، والأنبياء يصدق بعضهم بعضا، وهؤلاء يأمرون بعبادة الله وحده، والصدق والعدل، ويتبرؤون من الشرك وأهله. وهؤلاء يحبون أهل الشرك ويوالونهم، ويبغضون أهل التوحيد والعدل. فهذان جنسان متعاديان كتعادي الملائكة والشياطين؛ كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} فمن جعل النبي ساحرا أو مجنونا، هو بمنزلة من جعل الساحر أو المجنون نبيا، وهذا من أعظم الفرية والتسوية بين الأضداد المختلفة، وهو شر من قول من يجعل العاقل مجنونا، والمجنون عاقلا، أو يجعل الجاهل عالما، والعالم جاهلا. فإن الفرق بين النبي وبين الساحر والمجنون، أعظم من الفرق بين العاقل والمجنون والعالم والجاهل. اهـ.
وأما جزاء من يدعي النبوة من السحرة، فإن عاجل جزائهم هو ظهور كذبهم وبطلان دعواهم ولحوق الخزي بهم، مع ما ينتظرهم من انتقام الله في الدنيا وفي الآخرة إن لم يتوبوا، فإنهم حقيقون بالعقاب لكونهم أظلم الظلمة، كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ {الأنعام: 93}.
ويكفي السائل لمعرفة جزائهم في الدنيا أن يرجع إلى معنى قوله تعالى في ذلك: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * {الحاقة:44-47} وقد عقد شيخ الإسلام في كتابه فصلا لبيان أن سنة الله وعادته في الكذاب أن ينتقم منه ويظهر كذبه (ص 897).
والله أعلم.