الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنشكر للسائل الكريم أدبه وتواصله معنا وبذله النصيحة في ما يراه أنفع لعامة الناس، ثم إنه لا يخفى أن المفتي الذي يفتي شخصاً بعينه يمكنه أن يقدر حاله من حيث الإدراك والمستوى العلمي، وبالتالي يجيبه بما يناسب حاله، سواء في ذكر الدليل أو التعليل أو اختلاف أهل العلم في مسألته، قال الدكتور مسفر القحطاني في ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة: لعل الأقرب إلى الصواب في هذه المسألة -والله أعلم- أن ذكر الدليل في الفتوى يرجع إلى حال السائل وطبيعة الفتوى أو النازلة، فإذا كان السائل له علم بالشرع ودراية في معاني الأدلة أو طلب معرفة الدليل فينبغي للمفتي أو الناظر ذكر الدليل والحجة أو الحكمة من المشروعية، تطميناً لقلب السائل وزيادة في علمه وتوثيقاً لفهمه، أما لو كان المستفتي أمياً لا يفقه معنى الدليل فذكره له مضيعة للوقت وخطاباً لمن لا يفهم. انتهى.
ولكن عندما تكون الفتوى عن بُعد، ثم هي تُعرض في أوسع وأيسر وسائل الإعلام انتشارا (الشبكة العنكبوتية) بما يعني أن عشرات الآلاف من الناس يطلعون عليها ويستفيدون منها، مع اختلاف مذاهبهم المعمول بها في بلادهم، أو التي ترجحت عندهم، وسواء من كان في مثل حال السائل ويريد جواباً لمسألة تخصه، أو من يطلع عليها للتعلم... فهذا كله يقتضي أن يبسط القول في الفتوى بذكر دليلها وكلام أهل العلم فيها مع النص على الحكم بأسلوب واضح يتفهمه السائل.. وهذا ما نحرص عليه، وعلى أية حال فالأصل أن يقرن الحكم بدليله الشرعي، لأن المفتي إنما يخبر عن حكم الله تعالى لا عن حكم نفسه، ولا يخفى ما في هذا السبيل من تمكين معنى العبودية والانقياد للشرع وتعظيمه في قلب المستفتي، وهذا من المقاصد الشرعية بلا شك، قال ابن القيم في إعلام الموقعين: عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيباً، وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز الفتاوى، وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الأخذ به، وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، فيشفى السائل ويبلغ القائل، وهذا كثير جداً من فتاويهم لمن تأملها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب نعم أو لا فقط ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يدري ما حالهم في الفتاوى. انتهى.
والله أعلم.