الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. وقال صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. رواه مسلم. ولكن هذه الوعود وغيرها من الله تعالى ورسوله يجب أن لا تكون مسوغة للعبد أن ينتهك الستر الذي بينه وبين الله تعالى وأن لا تجعله يقتحم مساخطة سبحانه، لأسباب منها:
1- أن المعاصي وإن لم تكن من كبائر الذنوب إلا أن الله تعالى يكرهها ويكره فاعلها ويتوعده بالعذاب الأليم، قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَليِمٌ {النور:63}، وقال بعض السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت!. وقال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنوبه كذباب مر بأنفه فقال به هكذا. أي هشه وأزاحه بيده. رواه البخاري.
2- أن إدمان الصغائر يورث في القلب استخفافاً واستهانة بالآمر الناهي سبحانه وتعالى، وهذا الاستخفاف وتلك الاستهانة من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.
3- أن الوعد الذي في النصوص متعلق بالصغائر، وإنما تظل المعصية صغيرة إذا لم يصر عليها العبد، فإن أصر على فعلها وداوم عليها لم تبق صغيرة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. ولا بد لمن أراد تكفير سيئاته بما يفعله من الحسنات أن لا يكون مصراً عليها، كما قال تعالى: وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135}، وعلى ضوء ما سبق يمكن فهم قول أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا نعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الموبقات. رواه البخاري. قال المناوي: محقرات الذنوب أي صغائرها، لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها، قال الغزالي: صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى تفوت أهل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة. انتهى. وانظر للفائدة الفتوى رقم: 124964.
4- أن فاعل المعصية وإن كانت من الصغائر لا يأمن أن يختم له بها فتكون آخر أعماله وعليها يلقى الله تعالى، ولتتدبر قول الله سبحانه وتعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُون* أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {الزمر: 54-55-56-57-58}.
5- أن أداء صورة العبادات على وجه تسقط به المطالبة لا يكفي لحصول الوعد بتكفير السيئات ولا لحصول باقي الآثار المترتبة على أدائها، كصيانة العبد وحفظه عن ارتكاب ما يسخط الله، وذلك كما في قوله تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، فكم من مصلٍ يغشى المنكرات ويبارز الله بالمعاصي ولم تنهه صلاته؟! وإنما كان ذلك لأنه لم يقمها على وجه من الحسن والإتقان يتضمن الإخلاص وتجريد المقصود الذي حمله على إنشاء تلك العبادة، ويتضمن كذلك المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة أدائها، ويتضمن أيضاً الخوف والإشفاق من ردها وعدم قبولها، ولا يسعد بالتوفيق لإحسان العبادة التي تترتب آثارها عليها من هو مقيم على معاصي الله مستخفاً بأمره ونهيه بحجة أنه مجتنب للكبائر.
والله أعلم.