الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن من بلاغة القرآن تنويع الأسلوب، ففي هذه الآية الأولى صدر الجملة بفعل ماض ثم أتبعها بيريد، حيث قال جل من قائل: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ. {الإسراء:18}، ونظير هذه الآية قوله تعالى في الشورى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا. {الشورى:20}. وقوله تعالى في سورة هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. {هود:15}. فقد صدر الجمل الثلاث بكان ثم أتبعها بيريد، وقد يصدر الشرطان بفعل الإرادة مضارعاً، من دون كان كما في قوله في آل عمران: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا. {آل عمران:145}، وقد تلمس بعض أهل العلم نكتا في ذلك.
فقال النيسابوري في غرائب القرآن ورغائب الفرقان: وفي قوله (من كان يريد العاجلة) دون أن يقول: (من أراد العاجلة) كما قال (ومن أراد الآخرة) إشارة إلى أن مريد نفع الدنيا لا يكون مذموماً إلا إذا كان غالباً في ذلك ثابت القدم فسيح الأمل، ومريد الآخرة يكون محموداً بأدنى التفاتة بعد وجود الشرط. انتهى.
وقال ابن عاشور في تفسيره: والإتيان بفعل الكون هنا مؤذن بأن ذلك ديدنه وقصارى همه، ولذلك جعل خبر (كان) فعلاً مضارعاً لدلالته على الاستمرار زيادة تحقيق لتمحض إرادته في ذلك.. والاختلاف بين جملة من كان يريد العاجلة (وجملة) ومن أراد الآخرة (بجعل الفعل مضارعاً في الأولى وماضياً في الثانية للإيماء إلى أن إرادة الناس العاجلة متكررة متجددة) وفيه تنبيه على أن أمور العاجلة متقضية زائلة، وجعل فعل إرادة الآخرة ماضياً لدلالة المضي على الرسوخ تنبيها على أن خير الآخرة أولى بالإرادة، ولذلك جردت الجملة (كان) ومن المضارع، وما شرط في ذلك إلا أن يسعى للآخرة سعيها وأن يكون مؤمناً. انتهى.
والله أعلم.