الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقصة نظر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مخرجة في الصحيحين: البخاري ومسلم ، فعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْظُرُ فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ تَسْمَعُ اللَّهْوَ .
وللعلماء في نظر المرأة إلى الرجال الأجانب وعند أمن الفتنة وعدم وجود شهوة قولان:
القول الأول: جواز ذلك ، ومن جملة أدلة أصحاب هذا القول حديث عائشة رضي الله عنها السابق.
قَالَ القاضي عِيَاضٌ رحمه الله: وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى فِعْلِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَى الْمَحَاسِنِ وَالِاسْتِلْذَاذِ بِذَلِكَ، وَمِنْ تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ عَلَيْهِ: بَابُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ. انتهى.
وذكر الحافظ ابن حجر ما يقوي هذا القول في فتح الباري عند شرحه: بَاب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ . فقال: وَظَاهِر التَّرْجَمَة أَنَّ الْمُصَنِّف -أي البخاري- كَانَ يَذْهَب إِلَى جَوَاز نَظَر الْمَرْأَة إِلَى الْأَجْنَبِيّ بِخِلَافِ عَكْسه, وَهِيَ مَسْأَلَة شَهِيرَة, وَاخْتُلِفَ التَّرْجِيح فِيهَا عِنْد الشَّافِعِيَّة , وَحَدِيث الْبَاب يُسَاعِد مَنْ أَجَازَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَاب الْعِيد جَوَاب النَّوَوِيّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عَائِشَة كَانَتْ صَغِيرَة دُون الْبُلُوغ أَوْ كَانَ قَبْل الْحِجَاب , وَقَوَّاهُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة: فَاقْدُرُوا قَدْر الْجَارِيَة الْحَدِيثَة السِّنّ. لَكِنْ تَقَدَّمَ مَا يُعَكِّر عَلَيْهِ وَأَنَّ فِي بَعْض طُرُقه أَنَّ ذَلِكَ بَعْد قُدُوم وَفْد الْحَبَشَة وَأَنَّ قُدُومهمْ كَانَ سَنَة سَبْع وَلِعَائِشَة يَوْمئِذٍ سِتّ عَشْرَة سَنَة, فَكَانَتْ بَالِغَة, وَكَانَ ذَلِكَ بَعْد الْحِجَاب, وَحُجَّة مَنْ مَنَعَ حَدِيث أُمّ سَلَمَة الْحَدِيث الْمَشْهُور: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا. وَإِسْنَاده قَوِيّ ... وَالْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ اِحْتِمَال تَقَدُّم الْوَاقِعَة أَوْ أَنْ يَكُون فِي قِصَّة الْحَدِيث الَّذِي ذَكَرَهُ نَبْهَان شَيْء يَمْنَع النِّسَاء مِنْ رُؤْيَته لِكَوْنِ اِبْن أُمّ مَكْتُوم كَانَ أَعْمَى فَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْهُ شَيْء يَنْكَشِف وَلَا يَشْعُر بِهِ , وَيُقَوِّي الْجَوَاز اِسْتِمْرَار الْعَمَل عَلَى جَوَاز خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد وَالْأَسْوَاق وَالْأَسْفَار مُنْتَقِبَات لِئَلَّا يَرَاهُنَّ الرِّجَال , وَلَمْ يُؤْمَر الرِّجَال قَطُّ بِالِانْتِقَابِ لِئَلَّا يَرَاهُمْ النِّسَاء , فَدَلَّ عَلَى تَغَايُر الْحُكْم بَيْن الطَّائِفَتَيْنِ , وَبِهَذَا اِحْتَجَّ الْغَزَالِيّ عَلَى الْجَوَاز فَقَالَ : لَسْنَا نَقُول إِنَّ وَجْه الرَّجُل فِي حَقّهَا عَوْرَة كَوَجْهِ الْمَرْأَة فِي حَقّه؛ بَلْ هُوَ كَوَجْهِ الْأَمْرَد فِي حَقّ الرَّجُل فَيَحْرُم النَّظَر عِنْد خَوْف الْفِتْنَة فَقَطْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِتْنَة فَلَا, إِذْ لَمْ تَزَلْ الرِّجَال عَلَى مَمَرّ الزَّمَان مَكْشُوفِي الْوُجُوه وَالنِّسَاء يَخْرُجْنَ مُنْتَقِبَات , فَلَوْ اِسْتَوَوْا لَأَمَرَ الرِّجَال بِالتَّنَقُّبِ أَوْ مُنِعْنَ مِنْ الْخُرُوج. انتهى.
وقد أجاب الإمام أبو داود عن حديث : أفعمياوان أنتما. عقب روايته له في سننه بقوله: هَذَا لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَلَا تَرَى إِلَى اعْتِدَادِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ. انتهى .
قال الحافظ ابن حجر فِي تلْخِيص الحبير : وَهَذَا جَمْع حَسَن وَبِهِ جَمَعَ الْمُنْذِرِيُّ فِي حَوَاشِيهِ وَاسْتَحْسَنَهُ شَيْخنَا. اِنْتَهَى .
وقال المباركفوري: قال السيوطي رحمه الله : كان النظر إلى الحبشة عام قدومهم سنة سبع ولعائشة يومئذ ست عشرة سنة وذلك بعد الحجاب فيستدل به على جواز نظر المرأة إلى الرجل. انتهى .
وبدليل أنهن كن يحضرن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولا بد أن يقع نظرهن إلى الرجال فلو لم يجز لم يؤمرن بحضور المسجد والمصلى، ولأنه أمرت النساء بالحجاب عن الرجال ولم يؤمر الرجال بالحجاب كذا في المرقاة. انتهى من تحفة الأحوذي .
والقول الثاني : عدم جواز نظر المرأة للرجال الأجانب وإن كان النظر بلا شهوة أو ريبة، وهو أصح الوجهين عند الشافعية.
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: وَفِيهِ جَوَاز نَظَر النِّسَاء إِلَى لَعِب الرِّجَال مِنْ غَيْر نَظَر إِلَى نَفْس الْبَدَن . وَأَمَّا نَظَر الْمَرْأَة إِلَى وَجْه الرَّجُل الْأَجْنَبِيّ فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَحَرَام بِالِاتِّفَاقِ, وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَة وَلَا مَخَافَة فِتْنَة فَفِي جَوَازه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَصَحّهمَا تَحْرِيمه ... وَعَلَى هَذَا أَجَابُوا عَنْ حَدِيث عَائِشَة بِجَوَابَيْنِ... انتهى .
وقد تقدم ذكر الجوابين والجواب عنهما في كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله .
وقال السندي في حاشيته على النسائي: وفي الحديث دلالة على جواز نظر المرأة إلى الرجال إذا كان المقصد النظر إلى لعبهم مثلا لا إلى وجوههم، وقيل كان قبل بلوغ عائشة أو قبل تحريم النظر. والله تعالى أعلم. انتهى .
وعلى كلا القولين فلا إشكال في قصة نظر عائشة رضي الله عنها للحبشة، لأن الفتنة كانت مأمونة، كما أن النظر إلى مجموع الرجال يختلف عن النظر إلى الأفراد، وراجع الفتوى رقم: 7997.
والله أعلم .