الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالأمر على خلاف ما بلغ السائلَ الكريمَ عن العلماء، فإن الغناء عندهم أنواع، ولكل نوع حكمه من الحل أو الحرمة، وأما آلات اللهو والمعازف ـ الموسيقى ـ فقد حكى الإجماع على تحريم استماعها ـ سوى الدف ـ جماعة من العلماء، منهم الإمام القرطبي وأبو الطيب الطبري وابن الصلاح وابن رجب الحنبلي وابن القيم وابن حجر الهيتمي، كما سبق بيانه بأدلته في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 669، 987، 5282، 7248، 31382، 15918، 6110.
وجاء في الموسوعة الفقهية: الغناء إما أن يقترن بآلة محرمة من آلات العزف أو لا يقترن بها، فإن لم يقترن بأي آلة، فقد اختلف الفقهاء في حكمه وإن اقترن الغناء بآلة محرمة من آلات العزف، فقد ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وجمهور الشافعية إلى حرمته، وذهب بعض فقهاء الشافعية إلى حرمة آلة العزف وبقاء الغناء على الكراهة. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: المكاء والتصدية يعني الصفير والتصفيق يدعو إلى الفواحش والظلم ويصد عن حقيقة ذكر الله تعالى والصلاة، كما يفعل الخمر، والسلف يسمونه تغبيرا، لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود وهو ما يغبر صوت الإنسان على التلحين، فقد يضم إلى صوت الإنسان إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى، وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد، وإما الضرب باليد على أختها، أو غيرها على دف أو طبل كناقوس النصارى، والنفخ في صفارة كبوق اليهود، فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته، وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب، فذهب الأئمة الأربعة: أن آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير، و ـ المعازف ـ هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها، ولم يذكرأحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع ـ يعني الزمارة التي يقال لها الشبابة ـ وجهين بخلاف الأوتار ونحوها، فإنهم لم يذكروا فيها نزاعا، وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له فلم يذكروا نزاعا لا في هذا ولا في هذا، بل صنف أفضلهم في وقته أبو الطيب الطبري شيخ أبي إسحاق الشيرازي في ذلك مصنفا معروفا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام، أو مكروه، أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال، وذكروا عن الشافعي قولين، ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعا. اهـ.
وبهذا يعلم أن الأصوات الملحنة التي يستحدثها الإنسان بغرض التلذذ والطرب لها حكم المعازف، سواء كانت بغير آلة كالمكاء والتصدية، أو بآلة غير معتادة للطرب كالضرب بالقضيب على الفخذ أوالجلد، وهو المسمى بالتغبير، وقد نقل شيخ الإسلام في موضع آخر من فتاويه عن الإمام الشافعي أنه قال: خلفت ببغداد شيئا أحدثه الزنادقة يسموه التغبير يصدون به الناس عن القرآن. اهـ.
وقد ألمح شيخ الإسلام في كلامه السابق إلى أمرين:
ـ الأول: أن كل هذه الأصوات الملحنة التي تفعل للذة والطرب داخلة في المعازف، ويوضح هذا ما جاء في الموسوعة الفقهية تحت عنوان: استماع أصوات الجمادات ونصه: إذا انبعثت أصوات الجمادات من تلقاء نفسها أو بفعل الريح فلا قائل بتحريم استماع هذه الأصوات، أما إذا انبعثت بفعل الإنسان، فإما أن تكون غير موزونة ولا مطربة، كصوت طرق الحداد على الحديد، وصوت منشار النجار ونحو ذلك، ولا قائل بتحريم استماع صوت من هذه الأصوات، وإما أن ينبعث الصوت من الآلات بفعل الإنسان موزونا مطربا، وهو ما يسمى بالموسيقى. اهـ.
ـ والأمر الثاني: أن من علة تحريم المعازف بأنواعها أنها تدعو إلى الفواحش والظلم وتصد عن حقيقة ذكر الله تعالى وعن الصلاة، كما يفعل الخمر.
وهذا القدر فيه جواب عن استفسار السائل الكريم عن الأصوات التي يستصدرها بواسطة الأكواب والأطباق ونحو ذلك مما يظنه خارجا عن آلات اللهو ـ المعازف ـ رغم كونها ذات لحن مطرب، وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: أن اللحن بمعنى التغريد والتطريب إن كان بلا آلة، ولم يكن في ألفاظه ما يحرم فهو مكروه في الجملة لشغله عن ذكر الله، ولما فيه من لهو، وإن كان فيه شيء مما ذكر من آلة وفحش القول فهو حرام. اهـ.
والله أعلم.