الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالاستغفار الذي يحتاجُ إلى الاستغفار هو الاستغفار الذي يكون بمعنى التوبة وصدر ممن يقيم على المعصية، ولا يعطي التوبة حقها، ولا يقوم بما وجب عليه فيها، فهذا لا ينفعه استغفاره بلسانه حتى يأتي بشروط التوبة، قال القرطبي:
وقال النووي: وعن الفضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين.
ويقاربه ما جاء عن رابعة العدوية رضي الله تعالى عنها قالت: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير. انتهى.
قال المناوي في فتح القدير: تنبيه سئل أحدهم أيهما أفضل: التسبيح والتهليل والتكبير أو الاستغفار؟ فقال: يا هذا الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون منه إلى البخور، ولا بد من قرن التوبة بالاستغفار لأنه إذا استغفر بلسانه وهو مصر عليه فاستغفاره ذنب يحتاج للاستغفار ويسمى توبة الكذابين. انتهى.
وليس معنى هذا أن نفس هذا الاستغفار ذنب، بل معناه كما بينه أهل العلم أنه ليس هو الاستغفار التام، ولكنه دعاء من جنس الدعاء، وقد يكون سببا للمغفرة بفضل الله ورحمته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن الاستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدّعاء والسؤال، وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به، لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو، وقد يدعو ولا يتوب... إلى أن قال: والتّوبة تمحو جميع السّيئات،...وأمّا الاستغفار بدون التّوبة فهذا لا يستلزم المغفرة، ولكن هو سبب من الأسباب. انتهى.
وقال ابن رجب: وإن قال بلسانه: أستغفر الله وهو غير مقلع بقلبه فهو داعٍ لله بالمغفرة كما يقول: اللّهمّ اغفر لي، وهو حسنٌ وقد يُرجى له الإجابة، وأمّا من قال: توبة الكذّابين فمراده أنّه ليس بتوبة كما يعتقده بعض النّاس، وهذا حق، فإنّ التّوبة لا تكون مع الإصرار.
وقال: ومجرّد قول القائل: اللّهمّ اغفر لي طلب للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدّعاء إن شاء أجابه وغفر لصاحبه، لاسيّما إذا خرج من قلب منكسر بالذّنب وصادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصّلوات. انتهى.
وأما كونك تعتاد بعض الصغائر، فإنّا نُحذرك كل التحذير من الاستهانة بمعصية الله، والانهماك فيها بحجة أنها من الصغائر، فقد تكون من الكبائر وأنت لا تشعر كما قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ {النور:15}.
وقال أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنّا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. أخرجه البخاري، ثم إن الإصرار على الصغائر يدخلها في حد الكبائر، والذنوب يجر بعضها إلى بعض، والسيئة تطلب السيئة حثيثا، فإذا عمل العبد السيئة، قالت له أختها إلى جنبها اعملني.
وتلد الصغائر الكبائر، وتسهل فعلها على العبد، فحذار حذار من محقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على المرء فيهلكنه.
خلِّ الذنوب صغيرها * وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق * أرض الشوك يحذرُ ما يرى
لا تحقرن صغيرةً * إن الجبال من الحصى
قال ابن القيم رحمه الله: وها هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. بل يجعلها في أعلى المراتب. وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وهو قدر زائد على مجرّد الفعل. والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره. انتهى.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن من رحمة الله بعباده أن جعل للصغائر مكفرات تمحو أثرها، ولو لم يتب العبد منها، فمن ذلك اجتناب الكبائر، لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً {النساء:31}.
وتكفرها كذلك الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصوم رمضان لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
وما عدا ذلك من الطاعات التي وردت الأحاديث بأنها تكفر الذنوب، كصوم عرفة وصوم عاشوراء، ونحو ذلك، فهو محمول عند الجمهور على الصغائر، فإنها تكفر بأمثال هذه الطاعات، التي ثبت في الشرع تأثيرها في محو الصغائر، قال النووي في شرح مسلم: وتنقسم أي المعاصي باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح: ما لم يغش كبيرة فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر ولا شك في حسن هذا ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير. انتهى.
ومن أسباب تكفير الصغائر الاستغفار، فإنه دعاء وطلب للمغفرة كما تقدم في كلام ابن تيمية وابن رجب رحمهما الله.
واعلم أن هذا كله إنما هو في الجملة، وأما معرفة ما إذا كان يغفر لك بما تفعله من الاستغفار فإن ذلك من الغيب الذي ليس لنا أن نتكلم فيه.
والله أعلم