الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالعذر بالجهل يقول به جميع أهل العلم في الجملة، إلا أنهم يتفاوتون في كيفية الأخذ به، وفي المسائل التي يعذر فيها بالجهل، ورأي شيخ الإسلام ابن تيمية عمدة في هذه المسألة كغيرها من المسائل، ومبنى كلامه ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة على أن من ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" و "أن الشخص المعين الذي ثبت إيمانه لا يحكم بكفره إن لم تقم عليه حجة يكفر بمخالفتها وإن كان القول كفرا في نفس الأمر بحيث يكفر بجحوده إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله.
ومن القواعد الكلية في ذلك ما قاله شيخ الإسلام في (منهاج السنة): لا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل؛ فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع اهـ.
وقد سبق ذكر كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة مفرقا في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 60824 ، 55353 ، 75673 ، 19084، 111072 ، 60824 ، 53784 ، 60824.
وهذا إذا كان السائل يقصد كلام شيخ الإسلام في أمور الإيمان والكفر.
أما إذا كان مراد السائل رأي شيخ الإسلام في العذر بالجهل في الفروع العملية، فلا يمكن ضبط جميع المسائل الداخلة تحت هذا الأصل، لا سيما وهو غير مطرد، فمثلا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): قد يكون الترتيب شرطًا لا يسقط بجهل ولا نسيان، كما في الحديث الصحيح : " من ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم " ، فالذبح للأضحية مشروط بالصلاة قبله، وأبو بُردة بن نيار رضي الله عنه كان جاهلاً . فلم يعذره بالجهل، بل أمره بإعادة الذبح اهـ.
والذي يتيسر هنا هو نقل ما يجري مجرى التأصيل لهذه المسألة من كلام شيخ الإسلام، فمن ذلك قوله ـ رحمه الله ـ : سنته صلى الله عليه وسلم فيمن كان لم يعلم الوجوب أنه لا قضاء عليه؛ لأن التكليف مشروط بالتمكن من العلم والقدرة على الفعل. ولهذا لم يأمر عمر وعمارا بإعادة الصلاة لما كانا جنبين. فعمر لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة ظنا أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء. وكذلك الذين أكلوا من الصحابة حتى تبين لهم الحبال السود من البيض لم يأمرهم بالإعادة. وكذلك الذين صلوا إلى غير الكعبة قبل أن يبلغهم الخبر الناسخ لم يأمرهم بالإعادة، وكان بعضهم بالحبشة وبعضهم بمكة وبعضهم بغيرها، بل بعض من كان بالمدينة صلوا بعض الصلاة إلى الكعبة وبعضها إلى الصخرة ولم يأمرهم بالإعادة، ونظائرها متعددة. فمن استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. اهـ.
وقال ـ رحمه الله ـ في (الفتاوى الكبرى): من ترك الصلاة جاهلا بوجوبها، مثل من أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال ... والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة ... وقد ثبت عندي بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادي وغير البوادي من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة ... فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات سواء قيل: كانوا كفارا أو كانوا معذورين بالجهل اهـ.
وعلى أية حال فقول شيخ الإسلام في هذا المسائل إن لم يكن هو الراجح، فهو معتبر، وتقليده في ذلك سائغ كتقليد سائر الأئمة المعتبرين من غير ترخص، والقاعدة في ذلك أن المسلم العامي إذا اختلف عليه جوابان فإنه ليس مخيرا بينهما، أيهما شاء يختار، بل عليه العمل بنوع من الترجيح، من حيث علم المفتي وورعه وتقواه، ولا شك أن شيخ الإسلام في هذه جبل راسخ فقد شهد له الجميع بالعلم الواسع والفهم الثاقب، وقد كان من أورع أهل زمانه وأنقاهم وأشجعهم على قول الحق والصدع به، وقد سبق لنا بيان ما يفعله المسلم إذا اختلفت عليه أقوال العلماء، في الفتوى رقم: 44633، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.