الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالقرآن اصطلاح يخص بعض كلام الله تعالى، وهو كلام الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز وللتعبد بألفاظه، المكتوب في المصاحف. وما عدا ذلك من كلام الله تعالى لا يسمى قرآنا في الاصطلاح. حتى كلام الله المنزل وحياً على الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل والزبور وإن كان من كلام الله كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 68647، إلا إنه لا يسمى قرآنا في الاصطلاح، وإن سمي قرآنا من حيث اللغة أو الاستعمال العربي، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: خفف على داود عليه السلام القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه. رواه البخاري، وفي رواية أخرى عنده: خفف على داود القراءة.
قال ابن حجر: الْمُرَاد بِالْقُرْآنِ مَصْدَر الْقِرَاءَة لَا الْقُرْآن الْمَعْهُود لِهَذِهِ الْأُمَّة اهـ. وقال في موضع آخر: قِيلَ: الْمُرَاد بِالْقُرْآنِ الْقِرَاءَة، وَالْأَصْل فِي هَذِهِ اللَّفْظَة الْجَمْع وَكُلّ شَيْء جَمَعْته فَقَدْ قَرَأْته. وَقِيلَ: الْمُرَاد الزَّبُور. وَقِيلَ: التَّوْرَاة، وَقِرَاءَة كُلّ نَبِيّ تُطْلَق عَلَى كِتَابه الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ قُرْآنًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى وُقُوع الْمُعْجِزَة بِهِ كَوُقُوعِ الْمُعْجِزَة بِالْقُرْآنِ أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِب الْمَصَابِيح وَالْأَوَّل أَقْرَب. اهـ.
وقال ابن القيم: وَالْمُرَاد بِالْقُرْآنِ هَهُنَا الزَّبُور، كَمَا أُرِيد بِالزَّبُورِ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُور مِنْ بَعْد الذِّكْر أَنَّ الْأَرْض يَرِثهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. اهـ.
والأصل في ذلك أن يعلم السائل الكريم أن كلام الله لا منتهى له، كما قال سبحانه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا {الكهف: 109} وقال عز وجل: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {لقمان: 27}
قال السعدي: أخبر تعالى عن سعة كلامه وعظمة قوله، بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ، وتنبهر له العقول، وتحير فيه الأفئدة، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر، فقال: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ يكتب بها وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مدادا يستمد بها، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد، ولم تنفد كَلِمَاتُ اللَّهِ تعالى... بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي، على أنه لا نفاد له ولا منتهى، وكل شيء ينتهي إلا الباري وصفاته وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى .. اهـ.
وقد تقدم بيان أن كلام الله تعالى قديم النوع حادث الآحاد، وأنه صفة ذاتية فِعْـلية، في الفتويين: 54133، 35232.
وبهذا يتبن أن كلام الله تعالى يوم القيامة ليس من القرآن اصطلاحا، إلا ما أنزله الله وحيا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وكتب في المصحف، كقوله تعالى يوم القيامة: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {القصص: 62} وقوله: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ {القصص: 65}. وقوله سبحانه لأهل النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ {المؤمنون: 108-112}.
وأما قول السائل الكريم: (هل صحيح القول بأن الله تعالى يفسر لنا القرآن؟) فإن كان مراده حصول ذلك في الدنيا فقد نص أهل العلم على أن خير ما يفسر به القرآن هو القرآن، وأن الله تعالى أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ليبينه للناس، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {النحل: 44} قال السعدي: وهذا شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه. اهـ.
وقال سبحانه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {النحل: 64}.
وإما إن كان مراد السائل أن الله تعالى يفسر للناس القرآن يوم القيامة فلا نعلم على ذلك دليلا صحيحا من الكتاب أو السنة. وإنما روي أن الله تعالى يتلو القرآن يوم القيامة لأهل الموقف عامة ولأهل الجنة خاصة، فمن ذلك ما رواه السجزي في الإبانة عن أنس مرفوعا: كأن الناس لم يسمعوا القرآن حين يتلوه الله عليهم في الجنة. وما رواه الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا: كأن الخلق لم يسمعوا القرآن حين يسمعونه من الرحمن يتلوه عليهم يوم القيامة. وما رواه الحكيم الترمذي عن بريدة مرفوعا: إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرأعينهم قط كما تقر بذلك ولم يسمعوا شيئا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم وقرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد. وضعف الألباني الأحاديث الثلاثة في ضعيف الجامع.
ومنه ما رواه أبو الفضل الرازي في فضائل القرآن والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا: إذا كان يوم القيامة يقرأ الله القرآن فكأنهم لم يسمعوه فيحفظ المؤمنون وينساه المنافقون.
وأما قوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {المائدة: 48} وقوله سبحانه: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {الأنعام: 164} فمعناه كما قال ابن كثير: أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة. اهـ.
وقال السعدي: فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الشرائع والأعمال، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ. اهـ.
والله أعلم.