الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد سبق لنا الكلام على أوقات النهي بالتفصيل في فتاوى كثيرة، وانظر الفتويين رقم: 34779 ، 44206.
ونحبُ أن ننبهكَ هنا إلى أن العقل لا مدخلَ له في هذا الباب، ولا سبيل له إلا إدراك علة النهي عن الصلاة في وقت دون وقت، لكن الشارع قد دلنا على حكمة النهي، كما في حديث عمرو بن عبسة عند مسلم، ويأتي ذكره.
ثم اعلم أن أوقات النهي ثلاثةٌ على سبيل الإجمال، وخمسةٌ على سبيل البسط ، وهي على التفصيل:
1- من طلوع الفجر الصادق حتى تطلع الشمس، وقيل إن ابتداء هذا الوقت إنما يكون من بعد صلاة الفجر.
2- من طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح.
3- من بعد صلاة العصر، حتى تميل إلى الغروب.
4- من حين تميل الشمس للغروب حتى تغرب.
5- حين يقومُ قائم الظهيرة، وتتوسط الشمس كبد السماء قبل الزوال.
ولا يرى المالكية كراهة الصلاة في هذا الوقت، واستثنى الشافعية من كراهة الصلاة في هذا الوقت يوم الجمعة، فإن الصلاة لا تكره فيه عندهم قبل الزوال، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتنفلون قبل الجمعة، حتي يصعد الإمام المنبر، ولم يُنقل أنهم كانوا يكفون عن الصلاة قبل زوال الشمس.
وأدلةُ ما ذكرنا أحاديثُ كثيرة ثابتةٌ في الصحيحين وغيرهما، فمنها:
ما رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ.
و عن ابْنُ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغِيبَ. متفقٌ عليه.
وروى البخاري عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لا صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ.
وروى مسلم عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ : ثَلاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ .
.وقد تضمن حديث عمرو بن عبسةَ عند مسلم حكمة النهي عن الصلاة في تلك الأوقات، وأنها سدُ ذريعة الشرك، وسد باب التشبه بالمشركين ـ فإنهم يسجدون للشمس عند طلوع الشمس وعند غروبها- لأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأما قبل الزوال حينُ يقوم قائم الظهيرة، فهو وقتٌ تسجر فيه جهنم، فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قلتُ: "يا رسول الله أخبرني عن الصلاة؛ قال: صلِّ صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلِّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار.
قال الإمام ابن القيم وهو يعدد أصناف عباد الأصنام: فمنهم عبّاد الشمس، زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل، وهي أصل نور القمر والكواكب، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك فيستحق التعظيم والسجود والدعاء.ومن شريعتهم في عبادتها: أنهم اتخذوا لها صنماً بيده جوهرة على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة، من القرى والضياع، وله سدنة وقوَّام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات، فيصومون لذلك الصنم ويصلون، ويدعون، ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت، وإذا توسطت الفلك، ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات، قطعاً لمشابهة الكفار ظاهراً، وسداً لذريعة الشرك وعبادة الأصنام. انتهى.
وثمّ وقتٌ آخر اختلف العلماءُ هل هو منهيٌ عن الصلاة فيه أو لا، وهو ما سوى ركعتي الفجرِ بعد طلوع الفجر، وقد ذكرنا حكم هذه المسألة مفصلا في الفتوى رقم 116536.
والله أعلم.