الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه وعلى صاحبيه من القُرَب المستحبة, وقد روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر أنه كان يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه ثم على أبي بكر ثم على عمر رضي الله عنهما.
وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أولى ما يدخل في عموم الأمر بزيارة القبور فهي مستحبة استحبابا أكيدا, ولكن لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف على قبره آداب لا بد من رعايتها, وبيان ذلك أن الوقوف على قبره صلى الله عليه وسلم على قسمين: شرعي، وبدعي.
فالشرعي: هو ما قُصِد به التقرب إلى الله بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم والسلام عليه.
والبدعي: ما اشتمل على شيء زائد على ذلك من الشرك أو ذرائعه، كدعائه صلى الله عليه وسلم، وطلب الحاجات منه، أو التوسل به، أو استقبال القبر والدعاء عنده مما لم ينقل عن السلف.
وقد بين العلامة العثيمين آداب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، والوقوف أمامه بيانا شافيا, ونحن ننقل فتواه بطولها للفائدة، قال رحمه الله: إن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المستحبة، وهي أولى وأول ما يدخل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : زوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة. ولكن يجب على الإنسان حين زيارة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعتقد أنها عبادة لله، وليس عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمن بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً. يقول الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. فهذه حقيقة حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فالأمر كله إلى الله عز وجل النفع والضرر للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره كله لله عز وجل، وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير، وهو صلى الله عليه وسلم يمسه الضر كما يمس غيره ولهذا قال: وما مسني السوء. ولكنه صلى الله عليه وسلم يمتاز عن غيره بأنه نذير مبين لقوم يؤمنون، ولقد قاله الله تعالى له وأمره أن يعلن أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك لأحد ضراً ولا رشدا؛ كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. وأمره أن يعلن شيئاً آخر فقال: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى. فالواجب على من زار قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يؤمن بذلك، أي بما وصف الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وأن لا يتجاوزه غلواً، وأن لا يتأخر عنه تقصيراً، فللرسول صلى الله عليه وسلم ما له بما جعله الله عز وجل له، وللرب عز وجل ما له بما اختص به نفسه سبحانه وتعالى، ثم إذا سلم فلا يطيل لأن الإطالة مخالفة لهدي السلف الصالح، يقف تجاه قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبر فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل وسلم عليه واجزه عنا خيرا ما جزيت نبياً عن أمته، ثم يخطو عن يمينه خطوة ليكون مقابل وجه أبي بكر رضي الله عنه ويقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيرا، ثم يخطو خطوة أخرى عن يمينه ليكون أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيرا، أو كلمات نحوها ثم ينصرف، ولا يقف يدعو عند القبر، وينبغي أن لا يكثر من هذه الزيارة خلافاً لمن يجعلها أي هذه الزيارة كلما صلى فريضة جاء فزار أو كلما صلى الفجر جاء فزار فإننا نعلم والله علم اليقين أننا لسنا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يحبه الصحابة، ولا نعظمه أكثر مما يعظمونه، وإذا كانوا لا يفعلون مثل هذا فهم أسوتنا وقدوتنا. قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. فرضى الله عز وجل عمن كانوا بعد المهاجرين والأنصار لا يكون إلا لمن اتبعهم بإحسان أي أخذ بطريقتهم غير مقصر فيها، ولا متجاوزاً لها، وإنك لتعجب من قوم يعظمون النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أكثر من تعظيم الصحابة له، لكنهم يخالفونه في الأعمال، تجد عندهم تقصيراً في كثير من السنن التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم ليتعبد الناس بها لربهم جلا وعلا، بل إنك تجدهم مقصرين في الواجبات بل ربما تجد فيهم انتهاكاً للمحرمات ربما يكون فيهم من يحلق لحيته، ربما يكون فيهم من يشرب الخمر، ربما كان فيهم من يتتبع النساء بالمغازلة أو بالنظر المحرم أو ما أشبه ذلك، فعجباً لهؤلاء أن يخالفوا السلف من الجهتين: في الغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي التقصير في سنته وهديه. وليس تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقف عند قبره لنزوره زيارة غير مشروعة وإنما تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بمحبته واتباعه ظاهراً وباطناً واعتقاد أن سنته خير السنن وأن هديه أكمل الهدي وألا نتجاوز ما شرعه لا تقصيراً ولا إفراطاً هذا هو تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام. ولقد تحدى الله تعالى قوماً ادعوا أنهم يحبون الله باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فنصيحتي لإخواني المسلمين أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزل الله على رسوله، وأن لا يغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الغلو الجائر الذي يحرمون به خير سنته وخير هديه، ولقد يعجب المرء أن يقف بعض الناس أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم متجها إلى قبره حانياً رأسه مغمضاً عينيه جاعلاً يديه على صدره كما يفعل في الصلاة بل هو أشد خشوعاً من وقوفه بين يدي الله عز وجل وهذا لا شك من الجهل العظيم، وأستغفر الله إن كان هذا من تفريط العلماء وعدم وبيان الحق لهؤلاء العامة الذين لا يفعل أكثرهم ما يفعل إلا أنه يظن أنه محسن ولكنه ليس بمحسن. انتهى.
وننبه أيضاً إلى أدب مهم من تلك الآداب وهو ألا تشتمل زيارته صلى الله عليه وسلم على شد رحل, فإن الصحيح من قولي العلماء أن شد الرحل إنما يكون لزيارة المسجد وتأتي زيارة القبر تبعا كما حرره شيخ الإسلام ابن تيمية في غير موضع من فتاواه, وجرت بينه وبين مخالفيه في هذه المسألة مناقشات معروفة, ونحن ننقل من كلامه رحمه الله بعض ما دلل به على عدم فضيلة الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، وبيان الزيارة الشرعية التي كان عليها السلف والزيارة البدعية التي أحدثها الخلف, قال رحمه الله: فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
والثاني: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها. فإذا كان لفظ الزيارة مجملا يحتمل حقا وباطلا، عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ :السلام عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روى في زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة. فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها، فقد قصد نفس المحرم الذي سد الله ورسوله ذريعته، وهذا بخلاف السلام المشروع، حسبما تقدم.
وقد روى سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام. رواه النسائي وأبو حاتم في صحيحه، وروى نحوه عن أبي هريرة. فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة.
وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض علي يومئذ، فمن كان أكثرهم على صلاة كان أقربهم مني منزلة .
وفي مسند الإمام أحمد: حدثنا شُرَيح، حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني. ورواه أبو داود. وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: يا هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني. فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.انتهى بتصرف.
ودليل المنع من شد الرحل إلى قبره صلى الله عليه وسلم حديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. متفق عليه.
والله أعلم.