الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الراجح من أقوال أهل العلم أنه يجب على الأب العدل بين أولاده في الهبات والعطايا، لقوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم. متفق عليه. وأنت قد ذكرت أن أباكم لم يقصر حال يسره وغناه في تعليمكم ولا في تزويج أخواتك والقيام على سائر مصالحكم، وكان في ذلك كله سخياً غاية السخاء، ولكن قدر الله أن ينزل به من الفقر وضيق الرزق بعد ذلك ما منعه من القيام معك في زواجك بمثل ما فعل مع أختيك، ولذا فهو معذرو في ذلك، وليس لك أن تحمليه ما لا يطيق. فمن أين سيعطيك مثل ما أعطى أختيك وهو لا يجد.
أما بخصوص الشقة التي كتبها الأب باسم الأم، فإن كانت الأم قد حازتها بحيث تتصرف فيها تصرف الملاك، فهي ملكها، ولكنها ما دامت قد رغبت في استرجاعها منك بعدما كتبتها لك، فهذا حقها لأن الهبة إنما تملك بالقبض على الراجح من أقوال أهل العلم، ولم يكن منك قبض لهذه الشقة، هذا بالإضافة إلى أن هذه الهبة معلقة ومضافة إلى ما بعد موت والديك، وهذا يبطلها لأن الهبة من عقود التمليكات، والتمليكات لا تقبل الإضافة ولا التعليقات.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: ولما كانت الهبة من عقود التمليكات، وإن مقتضى التمليك هو الجزم والتنجيز، لذلك فقد منع فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة في المعتمد تعليق الهبة أو إضافتها إلى المستقبل، لأن الهبة تمليك في الحال، والتعليق والإضافة تنافيه. انتهى.
والتحايل على تحويل هذه الهبة بيعاً بكتابة عقد بيع لها، لا أثر له، إذ العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، فهي إذاً هبة معلقة على الموت، بل لو افترضنا وقوع هذه الهبة صحيحة، وتم قبضها، فإن الأم يجوز لها الرجوع فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده. والأم داخلة في قوله (إلا الوالد) كما ذهب إليه جمع من الفقهاء، أما إذا كان الأمر مجرد كتابة لها من والدك فقط ولم تقبضها، فإن أمك نفسها لم تملك هذه الشقة، وهي ما زالت على ملك الأب، لذا فإن عليك أن ترجعي هذا العقد لأمك حيث طلبته منك، لما ذكرنا ولأنه لا حق لك فيها، ولا يحملنك على التمسك بها خوفك أن تهبها أمك لأختك، فهذا ليس بعذر بل يجب أن تؤدي ما عليك وتسألي الله الذي لك، مع التنبيه أن الأم إذا فعلت ذلك فقد عصت الشرع وخالفت أمره بالعدل بين أولادها، فأمرها حينئذ لله وحسابها عليه.
ثم ليكن همك في الدنيا بعد طاعة الله هو بر والديك وإرضاءهما، فإن الدنيا متاع قليل وعرض زائل، والآخرة خير وأبقى، واعلمي أن من أعظم نعم الله عليك أن مد الله في أعمار والديك، فأدركتهما وهما على قيد الحياة، فهذه نعمة عظيمة حرم منها كثيرون. فعليك أن تستثمريها وتجعليها سلماً لبلوغ رضوان الله والفوز بجناته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضا الله من رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد. رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وحسنه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه. رواه الترمذي. وصححه الألباني. وقال عليه الصلاة والسلام: ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
والله أعلم.