الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا يتم إيمان عبد بالله حتى يؤمن بالقدر وبما يتضمنه من إثبات علم الله الأزلي الأبدي بكل شيء جملة وتفصيلاً، ما كان وما يكون من صغير وكبير وظاهر وباطن سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أو أقواله سبحانه أو بأفعال عباده وأقوالهم وأرزاقهم وآجالهم، قال تعالى: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ {سبأ:3}.
وقال تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا {الطلاق:12}، بل إنكار علم الله السابق كفر مخرج من الملة لما فيه من تكذيب القرآن.
فإذا تقرر هذا فلا يُقر زميلك على استشكاله أن الله تعالى يخلق من يعلم أنه سيكفر به سبحانه، فإن الله تعالى لا يسأل عما يفعل في ملكوته، قال تعالى عن نفسه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء:23}، ومع ذلك فإن لله حكماً وراء أفعاله يبصر الله بها من يشاء، فإن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لا يحاسب الناس على أعمالهم التي سبق في علمه أنهم سيعملونها حتى تقع منهم فعلاً، وذلك حتى يجازيهم يوم القيامة ولا حجة لهم..
بل وأمر سبحانه الملائكة أن تكتب أعمال بني آدم وأن تسجلها عليهم، مع أن الله تعالى غني عن هذه التسجيلات لعلمه السابق بما يفعله العباد، وإنما كان ذلك لقطع حجج من حق عليهم العذاب.. ومن ذلك أيضاً شهادة جوارح المجرمين على أفعالهم يوم القيامة، وأمره سبحانه الكفار بالسجود فيعجزون، وهذا كله ليس لنقص في علم الله تعالى، وإنما لتمام إقامة الحجة على عباده.
ولتمام البحث في هذا الموضوع ارجع إن شئت إلى الفتوى رقم: 95359، والفتوى رقم: 18046 والتي تفرق بين إرادة الله القدرية الكونية وبين إرادته الشرعية الدينية، وكذلك الفتوى رقم: 52546 التي تفرق بين قضاء الله تعالى المبرم وقضائه المعلق..
هذا وإن مسائل القدر من المسائل التي يجب عدم الخوض فيها عن طريق العقل، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا. أخرجه الطبراني وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وقد قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين. انتهى.
فيكفي العبد لكي يحقق الإيمان بالقدر أن يؤمن بخيره وشره دون الخوض في دقائق مسائله؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة، وفيه قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. رواه الترمذي. وصححه الألباني.
وأن يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين، أهل يمين خلقهم للنعيم فضلاً، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلاً، قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ {الأعراف:179}، وللمزيد لبيان الموضوع راجع الفتوى رقم: 60787، والفتوى رقم: 110325.
هذا ولا يصح للعوام المبتدئين في طلب العلم النظر في شبهات الملحدين فضلاً عن مناقشتهم ومحاججتهم، وانظر في ذلك الفتوى رقم: 24320، والفتوى رقم: 2073.
وما كان من الإمام أحمد أو شيخ الإسلام ابن تيمية من صدوع بالحق ورد شبهات المخالفين لهما وصبرهما على ما لقيا من جراء ذلك فقد كان عن علم تام، حيث كانا إمامي زمانهما والمرجوع إليهما في المعضلات.
والله أعلم.