الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأولاً: ذكر المفسرون أوجها في بيان قوله تعالى: ( وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) [البقرة: 30].
الوجه الأول: أن الملائكة قالت ذلك بعد إعلام الله تعالى لهم بطبيعة ذرية آدم عليه السلام، وأنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وهذا مروي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم كما نقل ذلك القرطبي وابن كثير، فعن ابن عباس وابن مسعود أن الله تعالى قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً.
وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فلذلك قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها.
الوجه الثاني: أنهم لما سمعوا لفظ :خليفة، فهموا أن في بني آدم من يفسد إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، والفصل بين الناس فيما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم.
الوجه الثالث: ما نقله القرطبي رحمه الله وغيره أن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء، وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء.
فبعث الله إليهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق الله آدم فأسكنه إياها. وهذا مروي عن ابن عباس وأبي العالية.
وما ذكره السائل من أن الجن ليس لها دماء تسفك ليس صحيحاً فإن الجن تأكل وتشرب وتنكح وفيها الرطوبة والبرودة، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد في المسند: قال صلى الله عليه وسلم: " مر علي الشيطان فأخذته فخنقته حتى إني لأجد برد لسانه في يدي فقال: أوجعتني أوجعتني ". وكون الجن خلقت من نار لا يمنع ذلك، فإن الإنسان خلق من تراب وفيه اللحم والدم والرطوبة وغيرها.
فهذه أشهر الأوجه التي ذكر المفسرون في هذه الآية الكريمة.
وليعلم أن قول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، وإنما هو كما قال ابن كثير رحمه الله: سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: ياربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك، ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟
قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال: ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون له والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم. انتهى كلام ابن كثير.
ثانياً: كون الأرضين سبعاً ثابت بالقرآن والسنة، قال الله تعالى: ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ) [الطلاق:12].
والأحاديث في بيان ذلك مشهورة.
وأما كون هذه الأراضين الست يسكنها الجن أو توجد فيها كائنات حية فهذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا ينبغي للمسلم أن يشتغل بالبحث عن ذلك، وحسبه أن يعلم أن في الكون من الملائكة والجن والدواب ما لا يحصيه إلا الله، كما قال الله تعالى: ( ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ) [الشورى:29].
وربما ظهر الجن لبعض الناس، كما أنه قد يرى الملك على صورة نور أو نحوه، كما رأى أسيد بن حضير مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر عنهم " رواه أحمد والنسائي في فضائل الصحابة.
وكثير من المشتغلين بالعلوم الكونية الحديثة ربما فسر حدوث مثل هذا بأنه أطباق طائرة أو غزو من الفضاء الخارجي، لعدم إيمان كثير منهم بالملائكة وعدم معرفتهم بوظائفهم وأعمالهم.
والله أعلم.