الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلتوضيح الجواب نحصر ذلك في ثلاثة نقاط ينبغي أن تنتبه لها جيداً:
الأولى: اعلم أنه لا تعارض بين الإيمان بالقضاء والرضا به وبين دعاء الإنسان بما يشاء من المباح، إذ أن الدعاء وما ينتج عنه من إجابة -إن شاء الله- من جملة القضاء والقدر، ونحن مأمورون به من باب التعبد لله بالأخذ بالأسباب التي شرعها لنا، ومثابون على ذلك لأنه من أجل العبادات كما أشرت.
ثانياً: قولك أنه لا يجوز أن يدعو الإنسان تبعاً لما تهواه نفسه غير صحيح، بل هو جائز ولو في الصلاة على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، ما لم يشتمل على محظور أو فحش أو نحو ذلك.. كيف وقد صح عند مسلم وغيره في الحديث: قال عبد الله رضي الله عنه: كنا إذا جلسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.. الحديث وفي آخره: ثم يتخير بعد من الدعاء ما شاء.
وعند البخاري: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به..
وقال تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. { البقرة، 201}.
قال ابن كثير: فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية ودار رحبة، وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هنيئ وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا... وقال الإمام أحمد: .. عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. انتهى.
ثالثاً: توهمك التعارض بين الدعاء بقولك: لا تكلني إلى نفسي وبين الدعاء بما تشتهيه نفسك غير صحيح، فالمراد من هذا الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم هو تفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه والتبرؤ من حول المرء وقوته استعانة بالله وحده... وليس المراد أن لا يدعو المرء بما أحب من الخير أو بما تهواه نفسه من المباحات من أمور الدنيا، بل إن الدعاء بذلك وسؤاله لله تعالى من جملة التوكل والاعتماد عليه.
قال في مرقاة المفاتيح في شرح هذا الدعاء: (دعوات المكروب): أي المهموم والمغموم، وسماه دعوات لاشتماله على معان جمة (اللهم رحمتك أرجو): أي لا أرجو إلا رحمتك. (فلا تكلني): أي لا تتركني إلى نفسي طرفة عين أي لحظة ولمحة فإنها أعدى لي من جميع أعدائي وأنها عاجزة لا تقدر على قضاء حوائجي.. قال الطيبي: الفاء في فلا تكلني مرتب على قوله رحمتك أرجو، فقدم المفعول ليفيد الاختصاص، والرحمة عامة فيلزم تفويض الأمور كلها إلى الله، كأنه قيل فإذا فوضت أمري إليك فلا تكلني إلى نفسي لأني لا أدري ما صلاح أمري وما فساده، وربما زاولت أمراً واعتقدت أن فيه صلاح أمري فانقلب فساداً وبالعكس. انتهى.
والله أعلم.