الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد
فقد سبق أن بينا حكم تارك الصلاة واختلاف أهل العلم فيه، وهل يعتبر شهيداً إذا قتل دون نفسه أو دينه أو ماله أو غير ذلك من أسباب الشهادة إذا لم يتب، بناء على الحكم عليه بالإسلام أو الكفر؟ فذهب بعضهم إلى أن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر... ولا حظ له في الإسلام ولا الشهادة... ومذهب الجمهور ومنهم أصحاب المذاهب الثلاثة وهو رواية عن الإمام أحمد أنه مسلم عاص بترك الصلاة محاسب عليها إذا لم يغفر الله له، وله حكم الشهادة وأجرها.
وبناء عليه.. فإن كان قتل وهو يدافع عن نفسه أو أهله أو ماله فهو شهيد -إن شاء الله تعالى- لما في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد. رواه البخاري. وفي رواية للترمذي وغيره، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد. وفي رواية للنسائي: من قتل دون ماله مظلوماً فهو شهيد. والروايتان صححهما الألباني. وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار.
وقد ذكر أصحاب الموسوعة الفقهية أنه ذهب الفقهاء إلى أن للظلم أثراً في الحكم على المقتول بأنه شهيد، ويقصد به غير شهيد المعركة مع الكفار، ومن صور القتل ظلماً: قتيل اللصوص والبغاة وقطاع الطرق، أو من قتل مدافعاً عن نفسه أو ماله أو دمه أو دينه أو أهله أو المسلمين أو أهل الذمة، أو من قتل دون مظلمة، أو مات في السجن وقد حبس ظلماً، واختلفوا في اعتباره شهيد الدنيا والآخرة، أو شهيد الآخرة فقط؟ فذهب جمهور الفقهاء: إلى أن من قتل ظلماً يعتبر شهيد الآخرة فقط، له حكم شهيد المعركة مع الكفار في الآخرة من الثواب، وليس له حكمه في الدنيا، فيغسل ويصلى عليه، وذهب الحنابلة في المذهب: إلى أن من قتل ظلماً فهو شهيد يلحق بشهيد المعركة في أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، لقول سعيد بن زيد رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد. ولأنهم مقتولون بغير حق فأشبهوا من قتلهم الكفار. انتهى.
وقد رجح ابن مفلح بعد ذكر الخلاف عن الحنابلة أنه يغسل، واستدل لذلك بأن عمر وعثمان وعلياً والحسين قتلوا ظلماً وغسلوا وصلي عليهم ولأنه ليس بشهيد المعركة أشبه المبطون.
وقال صاحب عون المعبود: من قتل دون ماله: قال العلقمي: أي من قاتل الصائل على ماله حيواناً كان أو غيره فقتل في المدافعة فهو شهيد أي في حكم الآخرة لا في الدنيا أي له ثواب الشهيد. انتهى...
ومن أدلة جمهور أهل العلم على أن تارك الصلاة ليس كافراً كفراً مخرجاً عن الإسلام، قول الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء {النساء:48}، فعموم الآية دال على أن تارك الصلاة داخل تحت المشيئة، إلى غير ذلك من الأدلة، وقد أتى على معظمها الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني ثم قال رحمة الله تعالى: ولأن ذلك إجماع المسلمين فإنا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها، ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام. انتهى.
وقال النووي في المجموع: فرع: في مذاهب العلماء فيمن ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها فمذهبنا المشهور ما سبق أنه يقتل حداً ولا يكفر، وبه قال مالك والأكثرون من السلف والخلف، وقالت طائفة: يكفر ويجري عليه أحكام المرتدين في كل شيء، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وبه قال ابن المبارك وإسحاق بن راهويه وهو أصح الروايتين عن أحمد وبه قال منصور الفقيه من أصحابنا كما سبق. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة والمزني لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي.. إلى أن قال: ولم يزل المسلمون يورثون تارك الصلاة ويورثون عنه ولو كان كافراً لم يغفر له ولم يرث ولم يورث، وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة ورواية شقيق فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل. وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها، وأما قياسهم فمتروك بالنصوص التي ذكرناها، والجواب عما احتج به أبو حنيفة أنه عام مخصوص بما ذكرناه، وقياسهم لا يقبل مع النصوص، فهذا مختصر ما يتعلق بالمسألة. والله أعلم. انتهى...
وللمزيد من الفائدة انظري الفتوى رقم: 95355، والفتوى رقم: 16290، والفتوى رقم: 23310، والفتوى رقم: 68656.
وأما صلاح أولاده واستقامتهم فإنه ينتفع به، وأما فسادهم فلا يتضرر به إلا إذا كان أعانهم عليه أو قصر في تربيتهم على الدين؛ كما بيناه في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 69795، 37358، 73465.
والله أعلم.