الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أدعو الله وأتضايق بسبب لوم نفسي على عدم بذل الجهد!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا شاب بعمر 26 سنة، لدي همة عالية -ولله الحمد- في الخير، ومعالي الأمور، ولا أشعر بتكبر على أحد من الخلق، وأشعر أن الله هداني ووفقني للكثير من الطاعات، ورزقني الاستقامة في كثير من أمور الدين، وشرح صدري للدعوة إليه وذكره، ولله الحمد.

بطبيعتي أحب الإنجازات، وأحب أن أشعر أني أنجزت شيئاً، أو حققت نجاحاً، أو حللتُ مشكلة، وأرتاح لذلك جداً، وأفرح لذلك جداً.

أنا أدعو الله كثيراً -ولله الحمد- في أمور حياتي، وفي مواجهة بعض المشاكل التي تعرض لي من حين لآخر -وبسبب ضعفي أمامها- أشعر أني لا ينجيني منها إلا اللجوء إلى الدعاء، وأشعر في داخلي بيقين أن أي شيء دعوت الله به سيتحقق، وأقول: إذن لا مشكلة لدي! لأن ثقتي بربي كبيرة، وهو على كل شيء قدير.

المشكلة أني -وأنا أعلم أن الدعاء من أعظم الأسباب لحل تلك المشكلة التي أواجهها- أتضايق بسبب شيء في نفسي يمنعني من أن أرتاح للدعاء، يقول لي هذا الشيء في نفسي: إذا كنت تتسبب بالدعاء ليحل لك جميع مشاكلك، فستحل قطعاً، فأين إذن مجهودك أنت وقوتك وقدراتك الذاتية لحل هذه المشكلة؟ ويقول لي هذا الشعور: "إذا كنت ستلجأ إلى الله وتدعوه لحل مشاكلك فستُحَلُّ كلها، ولن تحتاج إلى بذل مجهود لحلها، وبالتالي ستفقد لذة الارتياح الذي تجده عند حلِّك للمشكلة"! فأتضايق جداً وأحس أن لساني ثقيل على الدعاء، ويحول ذلك بيني وبين الدعاء لحل تلك المشكلة المعينة.

كما قلت سابقاً بأني أرتاح وأفرح إذا حللتُ مشكلة، لكني أضعف أمام بعض المشاكل، يعني هذا الشعور الداخلي يمنعني من أن أرتاح للدعاء، وأحتاج أن أجد حلاً لهذا الإشكال، وأريد منكم أن تُساعدوني في حل هذه المشكلة بوضوح.

أنا رغم كل هذا، أدرك أني فقير إلى الله، وأنه هو أرحم الراحمين، ولولاه لما كنت موجوداً الآن.

لكن أريد فقط أن أفهم نفسي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أحمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -ابننا الفاضل- في الموقع، وشكرًا على حُسن العرض للسؤال، ونسأل الله أن يُديم توفيقه عليك، وأن يلهمك السداد والرشاد، هو وليُّ ذلك والقادرُ عليه.

أرجو أن تعلم أن الدعاء والتضرع إلى الله عملٌ عظيم، ولا يُوفق إليه إلَّا إنسان موفّق، فلا تتوقف عن الدعاء، وتذكّر أن الشيطان هو الذي لا يريدنا أن نستمرَّ في الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم: (يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي)، وقال: (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِب لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ)، وترك الدعاء هو ما يُريده الشيطان.

لذلك أرجو أن تخالف هذا العدو وتستمر في الدعاء، فالدعاء مفتاحٌ للحلول، و(الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ) ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

الإنسان يدعو الله تبارك وتعالى، ويفعل الأسباب ثم يتوكل على الكريم الوهاب سبحانه وتعالى، والفقيه هو الذي يردّ أقدار الله بأقدار الله تبارك وتعالى، ولا تظنّ أن الدعاء أمرٌ سهلٌ، فكم من محرومٍ من رفع الأكفِّ إلى الله، وجاء في الأثر: (أبخل الناس مَن بخِلَ على نفسه بالدعاء)، وكان عمر يهتمّ بالسؤال ويقول: (أنا لا أحملُ همَّ الإجابة؛ لأن الله تكفّل بها، ولكنّي أحمل همَّ السؤال)، فكم من إنسان تأتيه الكُرب والمصائب وهو محروم من اللجوء إلى الله تبارك وتعالى!

لذلك ليس هذا مكاناً لأن تتضايق، بل الضيق في عدم الدعاء وعدم اعتماد الدعاء كحل رئيس لكل مشاكلنا، ولا يعني الدعاء واللجوء إلى الله أن الإنسان يترك بقية الأسباب، فلا بد أن يفعل الإنسان الأسباب، والدعاء أيضًا من الأسباب.

عليه: لا إشكال في هذا الذي يحدث، ولكن نرجو أن تستمر في الدعاء، وألَّا تستجيب لهذه الوساوس التي هي قطعًا لها علاقة بالشيطان؛ لأنه يريدُ أن يحرمك من هذا الخير.

الإنسان إذا دعا الله يدعو الله بيقين، يدعو الله بعزمٍ في المسألة، يدعو الله بإلحاح، يبدأ بالثناء على الله، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يرفع حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتذكّر بين يدي الدعاء أهمية الاستغفار وأهمية التوبة، حتى يكون أهلاً للإجابة، كما قال العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدَّمه الصحابة ليستسقي لهم: (اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا يُكْشَفُ إِلَّا بِتَوْبَةٍ)، فاجعل التوبة قاعدة لك، واستمر في الدعاء واللجوء إلى الله تبارك وتعالى، فإنه لا يردّ القضاء إلَّا الدعاء.

الإنسان كيف لا يدعو الله وهو رابحٌ في كل الأحوال، فما من مسلم يدعو الله بدعوة إلَّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث:
- إمَّا أن يستجيب الله دعوته فيعطيه ما أراد.
- وإمَّا أن يرفع عنه من البلاء والمصائب النازلة مثلها.
- وإمَّا أن يكتب له من الأجر والثواب مثل هذا الدعاء.
قال صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ دَعْوَتَهُ، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، أَوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَهَا).

أنت رابحٌ في كل الأحوال، فلا تترك هذا الخير، واعلم أن الذين يقعون في المشاكل الدعاء هو أصعب شيء بالنسبة لهم، لأنه لا يدعو الله إلَّا مَن وفقه الله تبارك وتعالى.

استمر على ما أنت عليه، واستمر كذلك في البحث في حصول المشاكل، بل عليك أن تتجنّب أسباب ورودُها أصلاً، الإنسان يسدّ هذا الباب؛ ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فتح البلاد وقاد المعارك ولم يكتف بالدعاء وهو جالسٌ في مكانه، مع الدعاء كان يلجأ إلى الله ويبذل الأسباب الأخرى، والدعاء كذلك من الأسباب.

إذًا: عليك أن تبذل الأسباب وتتوكل على الكريم الوهاب، وبين يدي كل مشكلة أو نعمة احرص دائمًا على أن تكون وثيق صلة بالله ذِكرًا ودعاءً ولجوءًا إليه.

نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً