الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دائما أتوقع الأسوأ وأخشى التجمعات، فما الحل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في البداية أشكر جزيل الشكر كل العاملين على هذا الموقع، حيث إني دائماً أقرأ جميع الاستشارات هنا، فهي تريح قلبي جداً.

أنا بعمر 22 سنة، أدرس بالخارج في بلد أجنبي منذ أكثر من 4 سنوات، وأعيش حياة يتمنى الكثير الحصول عليها، لكن مع هذا فإني أموت يومياً بداخلي في كل مرة أخرج فيها مع أحد أصدقائي في مكان ما، وأي تجمع للأصدقاء أخاف من اليوم الذي يليه؛ فإنه يتبع هذا اللقاء مصيبة أو فضيحة، علماً بأني لا أقوم بعمل خاطئ.

قد أكون شخصية صريحة أو غير متلونة؛ لكن مع هذا أحس بأنه دائماً ستحصل لي مصيبة أو فضيحة، على سبيل المثال: أخاف أن يصورني أحد مع أني لست بوضع مخل، أو لا أعمل أي شيء خاطئ.

دائماً لدي إحساس أن هناك من يريد الكيد بي، مع أنه ليس لدي أي أعداء، وأحس بأني لن أستطيع إكمال حياة طبيعية، وأنه ستقع لي مصيبة في يوم من الأيام تدمر كل حياتي.

هذا الوسواس يلازمني منذ أكثر من 3 سنوات، ولم أعد أتحمل، لدرجة أن أحس بأني مصابة بالرهاب الاجتماعي، وبعدي التام عن المناسبات الاجتماعية، وليس هذا فقط، فأي فعل أود أن أقوم به أحس بأنه سيتبعه مصيبة تنهي حياتي.

أرجو المساعدة، فقد تعبت وأصبح الموضوع يؤثر على دراستي ونفسيتي وعلاقاتي وأصدقائي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أسمهان حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحباً بك -أختنا الكريمة- رداً على استشارتك أقول:

لا شك أن خروجك مع رجال ومشاركتهم احتفالاتهم أمر غير مشروع، كون ذلك اختلاطاً لا مبرر له، والمرأة ضعيفة قد يؤثر عليها أي منظر من المناظر، وقد يؤدي إلى مرض قلبها وانتكاستها عياذاً بالله.

في الأماكن المختلطة يجتمع أناس شتى وأصحاب أخلاق مختلفة وقد توجد شخصيات تحمل قلوباً مريضة يكون لها مآرب سيئة جداً، فقد يلتقطون صوراً لك، وإن كانت غير مشينة إلا أنهم يستطيعون عبر بعض البرامج أن يجعلوها مشينة للغاية، ومن ثم يبتزونك من خلال تلك الصور.

أوصيك أن تهتمي بدراستك وتحصيلك العلمي حتى تعودي في أقرب وقت إلى بلدك، خاصة إن لم يكن معك محرم، وأن تجعلي صداقتك منحصرة مع الفتيات.

ينبغي أن توثقي صلتك بالله تعالى، وأن تجتهدي في تقوية إيمانك من خلال الإكثار من العمل الصالح، فذلك من أسباب جلب الحياة الطيبة، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

توجسك من وقوع أي مصيبة هو ناتج عن الوقوع في هذه المخالفات الشرعية من الخروج مع أصدقاء، وفي مجالس مختلطة، وهذا الإحساس ليس في نظري مجرد وساوس بل له ما يبرره، وإن كان من شدة الخوف تطور إلى وساوس قهرية كما يبدو من خلال استشارتك.

أنصحك بالتوقف عن تلك الخرجات وتلك المجالس، وألا تتفاعلي مع تلك الوساوس، خاصة في المواقف التي ليس فيها اختلاط، وألا تسترسلي معه تلك الخواطر، وأن تكثري من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فور ورود تلك الوساوس.

توبي إلى ربك توبة نصوحاً؛ فالتوبة تصلح القلب، وتذهب ما فيه من آثار المعصية، ومن شروط التوبة النصوح التي يتقبلها الله الإقلاع عن المعصية، والندم على ما فعلت، والعزم على ألا تعودي مرة أخرى لتلك المعصية.

أكثري من تلاوة القرآن الكريم، وحافظي على أذكار اليوم والليلة، ومن ذكر الله تعالى والاستغفار، فإن الشيطان يجثم على قلب ابن آدم إن غفل عن ذكر الله، ويشغله بالوساوس والخواطر، لكنه إن ذكر الله شرد.

يقول سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس).

ظني بالله خيراً، فإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ).

عليك بالتفاؤل واحذري من التشاؤم؛ فإن التفاؤل مبدأ مهم في الحياة، ولذلك حثنا ديننا عليه، فمن النصوص التي تعلمنا وتحثنا على التفاؤل قول ربنا جل في علاه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).

من الأحاديث التي تحثنا على التفاؤل قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ).

لقد كان التفاؤل سمة من سمات شخصية نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو أسوتنا وقدوتنا، كما قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، ومن صور التفاؤل وحسن الظن بالله ما جرى أثناء هجرته عليه الصلاة والسلام، إذ قال له أبو بكر رضي الله عنه حين دخلوا في الغار، وجاء المشركون يبحثون عنهما ووصلوا إلى باب الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

لقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه التفاؤل، فعن خَباب بْنِ الأَرَتِّ -رضي الله عنه- قال: (شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟، قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحب الفأل الحسن ويكره التشاؤم، فروى الإمام أحمد في مسنده أنه: (كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحسَنَ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ). والطِّيَرَةَ: هي التشاؤم بالشيء. وعند مسلم: (وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ)، وعند البخاري: (وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ؛ الْكَلِمَةُ الْحسَنَةُ).

علاج اليأس والقنوط هو إعادة صياغة الحياة على التفاؤل، وحسن الظن بالله، والنظر إلى الحياة بتفاؤل، واستبدال الرسائل السلبية التي كبلتنا عن الانطلاق وتحمل الصعاب برسائل إيجابية.

أمعني معي النظر في قول الصحابة حين أتي برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكثر من شرب الخمر، فقال الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. لما كان لهذه الرسالة السلبية تأثير على نفسية الرجل تجعله يستمر في الإدمان، فمحى عليه الصلاة والسلام تلك الرسالة بأخرى إيجابية تعزز من ثقة الرجل بنفسه وتدفعه نحو التغيير، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوه إنه يحب الله ورسوله)، فكيف تتصورين نفسية هذا الرجل بهذه الشهادة من النبي عليه الصلاة والسلام؟! ولما أتاه بعض الصحابة وكانوا قد تركوا الخطوط الأمامية للمواجهة في القتال، فقال لهم من أنتم قالوا: نحن الفرارون. قال: "بل أنتم العكارون" يعني المنحازون إلى قائد الجيش.

في المثل يقال: (إن البلاء موكل بالمنطق) فآمل ألا يصدر منك إلا الكلام الطيب.

يعقوب حين قال لأبنائه: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) ابتلي بأن أبناءه كادوا ليوسف وأتوه قائلين: (يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ).

دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجلٍ يعُودُه، فقال: (لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله)، فقال: "كلا، بل حُمَّى تفور، على شيخٍ كبيرٍ، كيما تُزِيرَه القبورَ"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فنعم إذًا). رواه البخاري.

يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فحفظ المنطق، وتخير الأسماء من توفيق الله للعبد".

تضرعي بالدعاء بين يدي الله تعالى وأنت ساجدة، وسليه سبحانه أن يصرف عنك ما تجدين من هذه الوساوس، وأن يشرح صدرك ويجملك بالحياء والعفاف، وأن يدفع عنك ما تكرهين، وأن يعينك ويوفقك لإكمال دراستك والعودة إلى بلدك.

أكثري من الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فذلك من أسباب تفريج الهموم، كما ورد في الحديث: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ).

نسعد بتواصلك، ونسأل الله تعالى لك التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً