الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أستطيع الموازنة بين الرجاء والخوف، وأبكي كثيرا خوفا من الانتكاسة

السؤال

السلام عليكم.

أنا لا أستطيع الموازنة بين الرجاء والخوف، وأنا في خوف دائما، ليس من ذنوبي غالبا، لكن خوفا من الانتكاسة، وذلك لما ألحظه على نفسي من بعد ولهو، وتساهل أحيانا في ذنوب بسيطة، لكنني أعلم أنها وإن كانت بسيطة وتساهلت فيها فإن ذنبي عظيم، أحيانا لا أفعل ذنوبا، لكني أغفل عن الذكر، ولأنني أريد أن أكون على قدر عال جدا من الإيمان والأعمال العظيمة، وأبكي بحرقة لعدم مقدرتي على ذلك، أتمنى أن أقوم الليل طويلا، وأصوم كثيرا، وأقرأ وأحفظ القرآن وأطلب العلم، لكن حصيلتي من ذلك قليلة جدا، وأخاف إذا لهوت ولم أذكر الله بخشوع في يوم ما، وإذا أطلت الفترة 4 أو 5 أيام لم أخشع ويوجل قلبي، وأبكي وأخاف كثيرا.

أنا دائما أقول لربي أني لا أريد البعد عنك، وأنا لم أتوقع في يوم من الأيام أن أصل بفضل الله إلى ما أنا عليه من التزام، لكنني مع هذا أخاف أن أنتكس، وأدعو الله أن يرزقني حسن الظن به، لكن هذا الشعور يؤلمني، وأشعر أن هناك خطأ في إحساسي، وما أنا عليه من رغبتي الدائمة في البكاء لخوفي من الله، ولأني إذا بكيت أرتاح، وفي ذات الوقت أشعر بضيق إذا لم أبكِ، على عدم خشوعي وبكائي لله، وأشعر بالذنب.

أفيدوني.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ كادي حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلا بك في موقعك إسلام ويب، وإنا سعداء بتواصلك معنا، ونحمد الله إليك هذا القلب الخائف من الله المؤمن بأن الله يحبه ويريد له الخير، ولكنه لا يركن إلى ذلك، بل يجتهد في الطاعة، لأنه يدرك كما أن الله غفور رحيم، هو كذلك شديد العقاب، ونحن نبشرك أنك الآن على الطريق الصحيح، والاستمرار فيه مع الدعاء أن يثبتك الله على الحق هو الخير العظيم.

واعلمي أن أول طريق الانتكاسة -عافاك الله- منها هو كثرة الأماني، وضعف الخوف والأمان من لقاء الله، لكن متى ما كان جناحا الطائر في قلبك (الخوف من الله والرجاء في العطاء) فأبشري فأنت على خير، ولكننا هنا نحتاج أن نبين لك فضل الخوف الذي منه تخافين، حتى تعلمي فضله، وكذلك نبين لك الرجاء حتى تعتمدي بعد الله عليه، وذلك في النقاط التالية:

أولا: الخوف منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، أما المحمود فهو ما حجزك عن الحرام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الخوف منْ أجلِّ منازل الطريق وأنفعها للقلبِ، وهو فرضٌ على كلِّ أحدٍ . قال الله تعالى: ﴿فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾. وأما الرجاء فهو كما عرفه العلماء: حادٍ يحدو القلوبَ إلى بلاد المحبوبِ، وهو اللهُ والدَّارُ الآخرةِ، ويطيب لها السير، وقيل: هو الاستبشارُ بجودِ وفضلِ الرَّبِّ تباركَ وتعالى، والارتياحِ لمطالعةِ كرمهِ سبحانهُ، وهو فرضٌ لازمٌ على كُلِّ مسلم،ٍ قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾، ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ والفرقُ بينه وبين التمنِّي أنَّ التمنِّي يكونُ مع الكسلِ، ولا يسلكُ بصاحبهِ طريقَ الجدِّ والاجتهادِ، والرَّجاءُ يكونُ مع بذلِ الجهدِ وحسنِ التَّوكُّلِ".

ثانيا: الخوف المحمود من الله له فوائد عظيمة وعد الله بها أتباعه منها:

1- هو علامة على التمكين في الأرض قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد}.

2- هو على العمل المتقبل الصالح الذي يبنى على الإخلاص دون انتظار ثناء أو مقابل من أحد تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}.

3- صاحب القلب الخائف من الله هو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهِ).
4- قد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الخائف من الله ناج في الدنيا والآخرة فقالَ -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثٌ مُهْلِكاتٌ: شُحٌّ مُطاعٌ، وهَوًى مُتَّبِعٌ، وإعْجابُ المَرءِ بِنَفْسِهِ، وثلاثٌ منْجِياتٌ: خَشْيَةُ الله (وهو الخوف) في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، والقَصْدُ في الفَقْرِ والغِنَى، والعَدْلُ في الغَضَبِ والرِّضا).

5- ثم نبشرك بعظيم أجر الله لمن خافه راجيا رحمته، خائفا من عقابه أن الله يؤمنه يوم الفزع الأكبر قال الله في الحديث القدسي: (وَعزتي لا أجمعُ على عبدي خَوفينِ ولا أجمعُ له أَمْنينِ، إذا أَمِننِي في الدُّنيا أَخَفْتُه يومَ القيامةِ، وإذا خَافَنِي في الدُّنيا أَمَّنْتُهُ يومَ القيامةِ).

إذن الخوف بهذا المفهوم محمود، أما الخوف المذموم فهو الخوف من غير الله، أو الخوف الذي يدفع صاحبه إلي البعد عن الله وارتكاب المحرمات -عافانا الله وإياك منه-.

ثالثا: سبب الخوف والقلق عندك من الانتكاسة هو عدم الموازنة بين الخوف والرجاء، وهما كما قال أهل العلم: كجناحي الطائر، ومن أهميتهما أنك حين تتصفحين القرآن ستجدين أن الله يقرن في آيات كثيرة بين الخوف والرجاء، قال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} ويقُول مُثنيا عَلَى الصَّادقين مِن عبادِه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ويقول كذلك: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} ولذلك ندعوك إلى دراسة باب الرجاء في كتب أهل العلم، وسيتحسن حالك تماما -إن شاء الله-.

نسأل الله أن يبارك فيك وأن يحفظك، وأن يقدر لك الخير حيث كان وأن يرضيك به، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات