الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أدفع ظلم والدي لإخوتي وأخشى أن أقع في العقوق، فما الحل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا فتاة بعمر أربع وعشرين سنة، من عائلة متوسطة وميسورة مادياً، عشت طفولة صعبة بعض الشيء أثرت في شخصيتي بشكل كبير، فرغم صغر سني إلا أني أحس بأني كبيرة جداً.

أمي إنسانه عصامية، هي مثال للمرأة التي ضحت بكل شيء حتى تستطيع أن تعيلنا، لي إخوة غير أشقاء من والدتي، وقد كان والدي متكفلاً بهم منذ صغرهم، رغم ضيق الحال، لأن أباهم متوفى -رحمه الله-، إلا إن أبي كان شديد القسوة، وكانت أمي تتحمل منه الكثير، ودائماً ما يقول إنه يتحمل أعباء ليس مجبراً عليها، بالرغم من أن والدتي تشتغل معه، وتتعب أكثر منه، فقد بدأت والدتي تجارة الملابس، بعد أن قامت ببيع كل أثاثنا حتى تبدأ هذه التجارة - والحمد لله - تحسنت أوضاعنا بشكل كبير، ويعود الفضل بعد الله عز وجل لوالدتي.

كما سلف وقلت كانت هناك العديد من المشاكل في عائلتي، وكنت دائماً ما أقف ضد والدي حتى أدرأ السوء عن أمي وإخوتي غير الأشقاء، فأنا لا أتحمل أن أجد أمي حزينة أو أحس أن أبي يظلمها.

في كثير من الأحيان يجرحها بكلام قاس حتى أمام الناس، وهذا ما يؤلمني كثيراً، وأحس في بعض الأحيان أن والدي يمكن أن يكون غير راض عني، لأني أعاتبه مثلاً على ما يفعل، إلا أنني لا أستطيع أن أرى ظلماً في حق إخوتي وأمي، وأسكت عنه.

حاولت مراراً أن أصمت لكنني لم أستطع، علماً بأن أبي لو ظلمني أنا مثلاً لا أهتم، وأصمت، لكن يجرحني جداً أن يؤلم أمي الحبيبة.

أنا حساسة بشكل لا يوصف، وهذا ما يجعلني أتصرف هكذا، أخيراً وبعد تضحيات أمي الجسام وتعبها منذ صغري، وبعد أن تحسنت أوضاعنا قرر والدي أن يتزوج بثانية، بحجة أنه يريد أن ينجب أولاداً ذكوراً، لأن والدتي لم تنجب غيري أنا وأختي منه، ولم يقدّر ما فعلته أمي من أجلنا، وهذا الأمر آلمني بشدة، وزاد الطين بلة.

أنا في بعض الأحيان أحس أني لا أقدّر والدي، ولأني أحس أنه لا يهتم إلا لنفسه، وكذلك لأنه غير ملتزم بعبادات أمرنا الله بها.

لطالما تمنيت أن يكون أبي قدوتي في هذه الحياة، وكنت كلما رأيت أباً صالحاً أو أحد الشيوخ أتمنى أن يكون أبي مثله، لعل في كلامي بعض القسوة، وأحس أني الآن أخطئ في حق والدي.

علماً بأن قلبه طيب، رغم كل ما يفعله، إلا أن ما أريد معرفته هو كيف يجب أن أتعامل مع أبي؟ فأنا أخاف من غضب الله علي، وأخاف أن أكون عاصية وغير بارة بوالدي، فأنا بين المطرقة والسندان، بين أمي التي أرى أنها تعذبت من أجلنا، وبين أبي الذي لا أود أن يسخط علي.

أرجوكم أفيدوني، وجزاكم الله كل خير، ووفقكم لما يحبه ويرضاه.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ منتهى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه.

نرحب بك -ابنتنا الفاضلة- ونحن سعداء حقيقة لحسن العرض لهذه المشكلة، وسعداء لهذه المشاعر النبيلة التي تحملينها تجاه الوالدة وتجاه الإخوة غير الأشقاء، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يثبتك على الخير، وأن يلهمك السداد والرشاد.

كذلك نشكر لك ونحيِّي فيك الشعور بأنك تقصرين في حق الأب، أو أنك تقسين عليه أحيانًا لأجل الأم، وشريعة الله تأمرك أن تحسني إلى الأم وألا تُغضبي الأب، وهذه معادلة قد تبدو صعبة لكنها ليست مستحيلة.

الإنسان ينبغي أن يسعى في إرضاء الوالدة والشفقة عليها والقيام بمساعدتها والتخفيف عنها، كذلك عليك أن تجتهدي في احترام الوالد وفي تقديره، وإن كنت رفعت صوتك أو جادلت الوالد بالأمس فما المانع أن تكوني لطيفة معه من اليوم، تستجلبين رضاه وتظهرين له البر والإحسان، خاصة وقد أشرت إلى أنه طيب، فأنت لست غاضبة من الوالد لأجله أو لأجل ما يفعل، ولكنك غاضبة لأجل تقصيره وقسوته على الوالدة.

إذا كانت الوالدة صاحبة المشكلة اعتدى عليها الوالد وصبرت معه سنوات، وتحملت هذه الصعاب، فأنت من باب أولى، والإنسان لا يمكن أن يجد أباً – أو أماً – بلا عيوب وبلا نقائص، ولكن علينا أن نحتمل ونداري ونجتهد في الإصلاح، فتخففين على الوالدة، وتخففين على الوالد، وتكونين بينهما، تحسنين إلى هذا وتحسنين إلى ذاك، وتنقلين المشاعر النبيلة بينهم.

إذا وجد خصام وسوء تفاهم فعليك أن تُخبري الوالد أن الوالدة تقدره، وأنها ليست مسؤولة عن هذا الذي تغضب منه أنت، وأنها تذكرك دائمًا بالخير وبالفضل، وأنت صاحب فضل علينا، حبذا لو أكملت هذ الفضل بالإحسان للوالدة.

بعد ذلك تقولين للوالدة (أنا أشعر أن الوالد كان قاسيًا، لكن لعل عنده ظروفًا، لعل عنده مشاكل، ونسأل الله أن يسهل الأمور، ويا أمي نحن نحب أن نراكم سعداء، وأنت يا أمي ضحيت كثيرًا فاصبري على الوالد في كبر سنه) يعني بهذه الطريقة تقولين خيرًا وتنمين خيرًا، وتحرصين على أن تؤلفي بين القلوب، وتحرصي على أن تكوني الطرف الناصح.
الحمد لله أنت في عمر يُتيح لك التواصل بهذه الطريقة مع الأب ومع الأم، والدليل على هذا هو حسن العرض لهذه المشكلة.

إذا غضب الوالد اليوم فعليك أن تسعي في إرضائه، وهذا هو المهم جدًّا حتى في المحصلة النهائية لا يشعر الوالد أنك قاسية عليه أيضًا، فلا تعالجوا قسوة الوالد بقسوة، ولا تعالجوا مواقف الوالد بالانحياز للأم، لأن هذا أيضًا مما يُعقّد المسألة، ودائمًا هذه الشكوى كثيرة من الآباء من أن الأبناء في كبرهم ينحازون للوالدة، فيُشعرون الوالد أنه مغيّب، وأنه لا مكانة له، وأنه لا يُستشار، وأن الكبير أصبح لا يسمع كلامه، وأن الأبناء جميعًا كأنهم يخططون مع الأم، هذه مرحلة يشعر بها الأب عندما يكون عنده أبناء وبنات كبار ويقفون في صف الوالدة.

نحن على يقين أن الوالد قد يكون قاسيًا، ولكن في النهاية ما ينبغي أن يشعر أنكم تميلون للأم، أو تناصرونها وحدها، ولا تحترمون مشاعره، ولا تهتمون بمعاناته في هذه الحياة.

إذن فالمطلوب هو الموازنة، المطلوب هو إرضاء الوالد في النهاية وبالدرجة الأخيرة، المطلوب ألا ترفعي صوتك على الوالد، وخذي عبرة وعظة من الوالدة التي صبرت وكانت عصامية وعملت، إذا كنتم الآن لا تصبرون على الوالد فالأم صبرت عليه بأكبر من صبرك أيضًا، صبرت عليه هذه السنوات الطويلة.

إذا كان الوالد قد تزوج بأخرى فعليك أيضًا أن تتأكدي أنه لا يزال أبًا وأنه لا يزال جديرًا بحسن المعاملة، وأن ما فعله ليس أمرًا محرمًا من الناحية الشرعية، وأرجو أن تشجعوا الوالدة أيضًا على التواصل معه، وعلى ألا تنسى أن له زوجة أخرى، وهذه مهارات مهمة جدًّا، فإن المرأة إذا كان لزوجها زوجة أخرى ينبغي عليها إذا دخل أن تُشعره بأهميته ومكانته، حتى لا يهرب إلى البيت الجديد.

رغم أننا لا نوافق الوالد على الكلام الذي قاله من أنه يريد أولاداً ذكوراً، لأن الرجل هو المسؤول عن الجينات المكونة للأنثى، وقد تأتي الزوجة الجديدة أيضًا بمجموعة من البنات، قد يبتليه الله بمثل هذا الموقف، وأي رجل يتكلم عن المرأة التي تُنجب بنات ويحاسبها على أمر هو السبب فيه، والعبرة ليست في أن يكون المولود ذكرًا أو أنثى، ولكن العبرة بالصلاح، العبرة أن يكون هذا المولود سليماً، وتقياً ومطيعاً لله تبارك وتعالى، وفي البنات خير كثير، والأنبياء آباء بنات، والعيب على إنجاب البنات هذا من صفات الجاهلية، نسأل الله أن يرفع الجهل والسوء عن كاهل هذه الأمة.

كذلك شجعي الوالدة على المواظبة على الصلاة، والحرص على إرضاء الله تبارك وتعالى، فإن هذا مفتاح لسعادة الأسرة، وهذا كله ينبغي أن يكون بمنتهى الأدب وبمنتهى اللطف وحسن التعامل مع الوالد.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقك رضا الوالد ورضا الوالدة، وأن يكثر من أمثالك، ونهنئك على هذا الشعور، وعلى هذه الاستشارة، وسنكون سعداء إذا تواصلتِ مع الموقع، ونسأل الله لك دوام التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً