الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 278 ] الحديث الحادي عشر

عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه النسائي والترمذي ، وقال : حسن صحيح .

التالي السابق


هذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " والحاكم من حديث بريد بن أبي مريم ، عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي ، وصححه الترمذي ، وأبو الحوراء السعدي ، قال الأكثرون : اسمه ربيعة بن شيبان ، ووثقه النسائي وابن حبان ، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء اسمه ربيعة بن شيبان ، ومال إلى التفرقة بينهما ، وقال الجوزجاني : أبو الحوراء مجهول لا يعرف .

وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر ، وعند الترمذي [ ص: 279 ] وغيره زيادة في هذا الحديث وهي " فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة " ولفظ ابن حبان : " فإن الخير طمأنينة ، وإن الشر ريبة " .

وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس .

وخرجه الطبراني من رواية مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا ، قال الدارقطني : وإنما يروى هذا من قول ابن عمر ، وعن عمر ، ويروى عن مالك من قوله . انتهى .

ويروى بإسناد ضعيف ، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال : وكيف لي بالعلم بذلك ؟ قال : " إذا أردت أمرا ، فضع يدك على صدرك ، فإن القلب يضطرب للحرام ، ويسكن للحلال ، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " . وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلا .

وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه : قيل له : فمن الورع ؟ قال : " الذي يقف عند الشبهة " [ ص: 280 ] وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة : منهم عمر ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال : ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك ؟ ! وقال عمر : دعوا الربا والريبة ، يعني : ما ارتبتم فيه ، وإن لم تتحققوا أنه ربا .

ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب : بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك .

وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد : إذا كان العبد ورعا ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه .

وقال الفضيل : يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقال حسان بن أبي سنان : ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء ، فدعه . وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله .

قال ابن المبارك : كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز : إن قصب السكر أصابته آفة ، فاشتر السكر فيما قبلك ، فاشتراه من رجل ، فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا ، قال : فأتى صاحب السكر ، فقال : يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي ، فلم أعلمك ، فأقلني فيما اشتريت منك ، فقال له الآخر : قد أعلمتني الآن ، وقد طيبته لك ، قال : فرجع فلم يحتمل قلبه ، فأتاه ، فقال : يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه ، فأحب أن تسترد هذا البيع ، قال : فما زال به حتى رده عليه .

[ ص: 281 ] وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق ، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له : أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب .

وقال هشام بن حسان : ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا .

وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه ، فأتاه كتابه : إني قدمت البصرة ، فوجدت الطعام مبغضا فحبسته ، فزاد الطعام ، فازددت فيه كذا وكذا ، فكتب إليه الحجاج : إنك قد خنتنا ، وعملت بخلاف ما أمرناك به ، فإذا أتاك كتابي ، فتصدق بجميع ثمن الطعام على فقراء البصرة ، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك .

وتنزه يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه ، فلم يأخذه ، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين ، وكان يزيد يعمل الخوص ، ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله .

وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعاما كثيرا ، فرأى سحابا في الخريف فكرهه ، فقال : ألا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين ؟ فآلى أن لا يربح فيه شيئا ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال له عمر : جزاك الله خيرا .

وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارا منهيا عنه ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن ، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أحمد في رواية [ ص: 282 ] عنه فيمن أجر ما استأجره بربح : إنه يتصدق بالربح ، وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب : إنه يتصدق به ، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل صلاحها بشرط القطع ، ثم تركها حتى بدا صلاحها : إنه يتصدق بالزيادة ، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب ، لأن الصدقة بالشبهات مستحب .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم ، فقالت : إنما هي أيام قلائل فما رابك ، فدعه يعني ما اشتبه عليك : هل هو حلال أو حرام ، فاتركه ، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو .



وقد يستدل بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضل ، لأنه أبعد عن الشبهة ، ولكن المحققين من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس هو على إطلاقه ، فإن من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم رخصة ليس لها معارض ، فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها ، وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعض العلماء ، فامتنع منها لذلك ، وهذا كمن تيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولا سيما إن كان شكه في الصلاة ، فإنه لا يجوز له قطعها لصحة النهي [ ص: 283 ] عنه ، وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك .

وإن كان للرخصة معارض ، إما من سنة أخرى ، أو من عمل الأمة بخلافها ، فالأولى ترك العمل بها ، وكذا لو كان قد عمل بها شذوذ من الناس ، واشتهر في الأمة العمل بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة ، فإن الأخذ بما عليه عمل المسلمين هو المتعين ، فإن هذه الأمة قد أجارها الله أن يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، فما ظهر العمل به في القرون الثلاثة المفضلة ، فهو الحق ، وما عداه فهو باطل .

وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعماله في التقوى والورع ، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه ، فإنه لا يحتمل له ذلك ، بل ينكر عليه ، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : هما ريحانتاي من الدنيا .

وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها ، فقال : إن كان بر أمه في كل شيء ، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل ، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه ، فيضربها ، فلا يفعل .

وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا ، ويشترط الخوصة : يعني التي تربط بها جرزة البقل ، فقال أحمد : أيش هذه المسائل ؟ ! قيل له :

[ ص: 284 ] إنه إبراهيم بن أبي نعيم ، فقال أحمد : إن كان إبراهيم بن أبي نعيم ، فنعم هذا يشبه ذاك .

وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله ، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا ، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع ، فإنه أمر من يشتري له سمنا ، فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع ، وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه ، وإنما يخرج معه محبرته يستمد منها ، واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته ، فقال له : اكتب فهذا ورع مظلم ، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم ، فقال : لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا ، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع ، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام ، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ، ويقدم على الشبهات من غير توقف .

وقوله صلى الله عليه وسلم " فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة " يعني : أن الخير تطمئن به القلوب ، والشر ترتاب به ، ولا تطمئن إليه ، وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، وسيأتي مزيد لهذا الكلام على حديث النواس بن سمعان إن شاء الله تعالى .

وخرج ابن جرير بإسناده عن قتادة ، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الآية : [ ص: 285 ] فامشوا في مناكبها ( الملك : 15 ) ثم قال لجاريته : إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله ، قالت : مناكبها : جبالها ، فكأنما سفع في وجهه ، ورغب في جاريته ، فسألهم ، فمنهم من أمره ، ومنهم من نهاه ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : الخير طمأنينة والشر ريبة ، فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقوله في الرواية الأخرى : " إن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة " يشير إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل كما قال في حديث وابصة : " وإن أفتاك الناس وأفتوك " وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق ، وعلامة الصدق أنه تطمئن به القلوب ، وعلامة الكذب أنه تحصل به الريبة ، فلا تسكن القلوب إليه ، بل تنفر منه .

ومن هنا كان العقلاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا كلامه وما يدعو إليه ، عرفوا أنه صادق ، وأنه جاء بالحق ، وإذا سمعوا كلام مسيلمة ، عرفوا أنه كاذب ، وأنه جاء بالباطل ، وقد روي أن عمرو بن العاص سمعه قبل إسلامه يدعي أنه أنزل عليه : يا وبر يا وبر ، لك أذنان وصدر ، وإنك لتعلم يا عمرو ، فقال : والله إني لأعلم أنك تكذب .

وقال بعض المتقدمين : صور ما شئت في قلبك ، وتفكر فيه ، ثم قسه إلى ضده ، فإنك إذا ميزت بينهما ، عرفت الحق من الباطل ، والصدق من الكذب ، قال : كأنك تصور محمدا صلى الله عليه وسلم ، ثم تتفكر فيما أتى به من القرآن فتقرأ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية ( البقرة : 164 ) ، ثم تتصور ضد محمد صلى الله عليه وسلم ، فتجده مسيلمة ، فتتفكر فيما جاء به فتقرأ : [ ص: 286 ] ألا يا ربة المخدع 26 قد هيئ لك المضجع يعني قوله لسجاح حين تزوج بها ، قال : فترى هذا - يعني القرآن - رصينا عجيبا ، يلوط بالقلب ، ويحسن في السمع ، وترى ذا - يعني قول مسيلمة - باردا غثا فاحشا ، فتعلم أن محمدا حق أتي بوحي ، وأن مسيلمة كذاب أتي بباطل .




الخدمات العلمية