الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بل الرفيق الأعلى من الجنّة

بل الرفيق الأعلى من الجنّة

بل الرفيق الأعلى من الجنّة

في ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة النبوية، وقبل أن يُتوفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس، خطب فى الناس، وذكر لهم في خطبته: أن عبداً خيره الله عز وجل بين الدنيا وبين ما عنده سبحانه، فاختار ذلك العبد ما عند الله عز وجل، وكان المقصود بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الصحيحة الدالة على هذا التخيير كثيرة، ومنها:
ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المِنبر فقال: (إنّ عبداً خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمّهاتنا، فعجبنا له، وقال النّاس: انظروا إلى هذا الشّيخ، يخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخَيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته, فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى.. (وكان أبو بكرٍ هو أعلمنا به) أي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور".

ـ وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتُ نبيٌّ حتى يُخيَّر بين الدنيا والآخرة، فسمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بُحَّةً، يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ}(النساء:69)، فظننتُ أنه خُيِّر) رواه البخاري. وفي رواية أخرى للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: إنه لم يُقْبَضْ نَبِىٌّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخَيَّر. فلما نزل به، ورأسه على فخذي غُشِي عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: اللَّهم الرفيق الأعلى، فقلت: إذاً لا يختارنا، وعرفتُ أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح. قالتْ: فكانتْ آخِر كلمةٍ تكَلَّم بها: اللهمَّ الرَّفيقَ الأعلى).
ـ وفي رواية لابن حبان وصححها الألباني، قالت عائشة رضي الله عنها: (فذهبتُ أنظر في وجهه، فإذا نظرُه قدْ شَخص وهو يقول: بلِ الرَّفيقُ الأعلَى مِن الجنَّة! قلتُ: خُيِّرتَ فاخترتَ والَّذي بعثَك بالحقّ، وقُبضَ (مات) رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال ابن حجر: "فهْم عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم الرفيق الأعلى) أنه خيّر، نظير فهم أبيها رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده): أن العبد المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى". وقال بدر الدين العيني: "(قول (خُيّر) على صيغة المجهول: أي خيّر بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة صلى الله عليه وسلم".

شبهة: تعارض تخيير نبينا صلى الله عليه وسلم بين لقاء ربه وبين والخلود في الدنيا مع القرآن الكريم :
تخيير نبينا صلى الله عليه وسلم في البقاء في الدنيا ولقاء ربه سبحانه وتعالى ثابت بأحاديث صحيحة منها ما هو في الصحيحين، ومنها ما هو في غيرهما بألفاظ مختلفة. وقد ادَّعى بعض المشككين وجود تعارض بين هذه الأحاديث والقرآن الكريم. فيذكرون قولة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لم يُقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخَيَّر) رواه البخاري، وحديث: (ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة..) رواه البخاري، ويزعمون أن ذلك يتعارض مع قول الله عز وجل:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ}(الأنبياء:34)، ويتساءلون مشككين أو مستنكرين: كيف يحكم الله عز وجل بعدم الخلود لأحد، ثم يخير النبيَّ صلى الله عليه وسلم بين الخلود في الدنيا والموت؟ هادفين من وراء ذلك إلى إثبات التعارض بين نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ووصولاً إلى التشكيك في صحيح البخاري.

الرد على هذه الشبهة :
إن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بين لقاء ربه والخلود في الدنيا خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء قبله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: إنه لم يُقْبَضْ نَبِىٌّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخَيَّر) رواه البخاري. وكذلك الحديث الخاص بتخيير نبينا صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وغيره، والأحاديث في ذلك صحيحة سنداً ومتناً، ولا نكارة فيها من حيث السند والمعنى. ولا يوجد تعارض بين ذلك وبين قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ}(الأنبياء:34)، فقد حكم الله عز وجل على جميع مخلوقاته بالفناء، بما فيهم الرسل والأنبياء، فهم خَلْق مِن خَلْقِه، وعبيد من عباده، والدنيا غير باقية لأحد، وقد علم الله تعالى من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام أنهم حين يُخَيَّرون بين الموت وبين لقاء ربهم سيختارون ويفضلون لقاء ربهم، ومن ثم حدد الله عز وجل الآجال والأعمار، فلا زيادة فيها ولا نقصان، كما قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(الأعراف:34)، ولن يفر من الموت أحد، لا مَلَك مقرب ولا نبي مرسل، ولذا قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ}(الأنبياء:34)،قال ابن عاشور: "علم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس، حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مُخلد".
فالأنبياء بشر داخلون في حكم هذه الآية، ولكن لهم خصوصيات اختصهم الله عز وجل بها، والتي منها تخييرهم عند موتهم بين البقاء في الدنيا ولقاء ربهم .. وعلى ذلك فلا تعارض بين تخيير نبينا صلى الله عليه وسلم بين لقاء ربه وبين الخلود في الدنيا، فقد علم الله تعالى منه أنه حين يُخَيَّر بين الخلود والبقاء في الدنيا وبين لقاء ربه، سيختار لقاءه سبحانه، ثم إن هذه خصوصية من خصوصيات نبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله، كما قال ابن حجر في فتح الباري: "هذه الحالة من خصائص الأنبياء، أنه لا يُقبض نبي حتى يخير بين البقاء في الدنيا وبين الموت". ويؤكد ذلك دكتور عمر سليمان الأشقر في كتابه: "الرسل والرسالات" فيقول: "مما تفرد به الأنبياء أنهم يخيرون بين الدنيا والآخرة".
ولما كان تخيير الرسل والأنبياء قبل الموت من علم الغيب الذي لا يعرفه أحد إلا بواسطة الوحي الصحيح، لم يَجُزْ لنا أن ننفيه أو نتكلم في تفاصيله بغير علم ولا هدى، بل يجب الوقوف عند حدود النصوص الواردة فيه، وهي أحاديث صحيحة عامة لم تستثن أحداً من الأنبياء .. وإن كان هناك أحاديث ضعيفة أو موضوعة في قصة استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم ليقبض روحه، وما ذُكِر فيها من حوار طويل بينهما، فهذا ليس مسوغاً للبعض أو دافعاً لهم إلى تكذيب الأحاديث الصحيحة في تخيير الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء: بين لقاء ربهم سبحانه، وبين البقاء والخلود في الدنيا ..
وقد سُئِل ابن عثيمين بالنسبة لقصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرت بعض الكتب فيها: أن ملك الموت أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه على شكل أعرابي، ما صحة هذا الكلام؟ فأجاب: "هذا غير صحيح .. لم يأته ملك الموت ولم يستأذن منه، بل خطب صلى الله عليه وسلم في آخر حياته خطبة، وقال: (إن عبداً خيَّره الله تعالى بين الخلد في الدنيا ما شاء الله، وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه) هكذا قال في آخر حياته، فبكى أبو بكر، فتعجب الناس كيف يبكي أبو بكر من هذه الكلمات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المُخيَّر، وكان أبو بكر أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي ورد، أما أن ملك الموت جاء يستأذنه فهذا غير صحيح".
إن تخيير الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بين لقاء ربه والبقاء والخلود في الدنيا، واختيار النبي صلى الله عليه وسلم لقاء ربه، أمْر ثابت وصحيح، وفيه دليل على علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا إخوانه من الأنبياء والرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، وفيه إظهار لتواضعه صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن عبداً) ولم يقل: نبيّاً ولا رسولا، كما فيه كذلك زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وتقديمه جوار الله عز وجل على البقاء في الدنيا والتمتع بها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ عبداً خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة