الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خفض الصوت من آداب التحدث

خفض الصوت من آداب التحدث

 خفض الصوت من آداب التحدث

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فتكلم عنده فرفع صوته ، فقال عمر: مه ، كُف ، بحسب الرجل من الكلام ما أسمع أخاه أو جليسه .
هكذا يرشدنا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه إلى أدب من آداب المجالسة والمحادثة ، وهو خفض الصوت وعدم رفعه فوق الحاجة ؛ فإن الجهر الزائد فوق الحاجة يخل بأدب المتحدث ، وقد يدل على قلة الاحترام للمُتحَدَّث إليه.
وقد ذكر الله عز وجل من وصايا لقمان عليه السلام لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 19). وقد ورد عن يزيد بن أبي حبيب في تفسيرها: يقول: واخفض من صوتك، فاجعله قصدا إذا تكلمت، وقال ابن زيد: اخفض من صوتك.
وتلمح في الوصية شدة التنفير من رفع الصوت فوق الحاجة حين يشبه ذلك بصوت الحمير ، فإياك أن تكون متصفا بصفة من صفات الحمير التي تؤذي الناس بشدة رفع صوتها.
وقال ابن كثير- رحمه الله تعالى- عند تفسيرها: (أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ، ولهذا قال: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير}ِ، وقال مجاهد «أي غاية من رفع صوته أنّه يشبّه بالحمير في علوّه ورفعه، ومع هذا فهو بغيض إلى الله، والتّشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمّه غاية الذّمّ).
وقال المبرّد- رحمه الله -: (إنّ الجهر بالصّوت ليس بمحمود وإنّه داخل في باب الصوت المنكر).

ويتأكد هذا الأدب ( خفض الصوت بالقدر الذي يُسمِع ) عند مخاطبة الوالدين أومن في مقامهما، ومع مَن يُعظَّم من الأفاضل والأكابر.
ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة محمد بن سيرين رحمه الله ، عن بكار بن محمد عن عبد الله بن عون قال : إن محمد بن سيرين ، كان -إذا كان عند أمه – لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها.
والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(الحجرات:2-3).
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية - ، حدثه كأخي السرار -أي كالمناجي المتحدث بسر-، لم يسمعه حتى يستفهمه، أي يخفض صوته ويبالغ حتى يحتاج إلى استفهامه عن بعض كلامه.
وروى البخاري أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لكَ عِلْمَهُ، فأتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا في بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقالَ: ما شَأْنُكَ؟ فَقالَ: شَرٌّ؛ كانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وهو مِن أَهْلِ النَّارِ، فأتَى الرَّجُلُ فأخْبَرَهُ أنَّهُ قالَ كَذَا وكَذَا. [وفي رِوايةٍ:] فَرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ ببِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقالَ: "اذْهَبْ إلَيْهِ، فَقُلْ له: إنَّكَ لَسْتَ مِن أَهْلِ النَّارِ، ولَكِنْ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ".
ولقد حث الشرع المطهر على خفض الصوت بصفة عامة، وتأكد هذا الأدب الرباني في الأحوال الشريفة ، ومنها:

عند الدعاء:
يقول الله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(الأعراف:55). قال ابن جرير رحمه الله: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً.
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي موسى رضي الله عنه أنَّهم كانوا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفرٍ، فرَفَعوا أصْواتَهم بالدُّعاءِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّكم لا تَدعونَ أصَمَّ ولا غائبًا، إنَّكم تَدعونَ قَريبًا مُجيبًا يَسمَعُ دُعاءَكم ويَستجيبُ".
وعن الحسن رحمه الله قال: إن كان الرّجل لقد جمع القرآن وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل لقد فقه الكثير وما يشعر به النّاس، وإن كان الرّجل ليصلّي الصّلاة الطّويلة في بيته وعنده الزّور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السّرّ فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدّعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلّا همسا بينهم وبين ربّهم وذلك أنّ الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وذلك أنّ الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا}(مريم: 3).

قال ابن جريج: يكره رفع الصّوت والنّداء والصّياح في الدّعاء، ويؤمر بالتّضرّع والاستكانة.
وقال قتادة في قوله تعالى: { إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا }(مريم: 3) : إنّ الله يعلم القلب التّقيّ ويسمع الصّوت الخفيّ.

في الصلاة ، وعند قراءة القرآن إذا كان يشوش على الآخرين:
فعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال : اعتكف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجدِ فسمِعهم يجهَرون بالقراءةِ ، فكشف السِّترَ وقال : "ألا إنَّ كلَّكم مُناجٍ ربَّه فلا يُؤذينَّ بعضُكم بعضًا ولا يرفَعْ بعضُكم على بعضٍ بالقراءةِ أو قال في الصَّلاةِ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "وإيَّاكُمْ وهَيْشاتِ الأسْواقِ". والمعنى: احذَروا رَفعَ الصَّوتِ في الصَّلاةِ والمساجدِ، والكلامَ دونَ فائدةٍ، كما يَحدُث في الأسواق.

ويوصي عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- حامل القرآن خاصة بقوله: (ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ولا غافلا ولا صخّابا ولا صيّاحا).

الرسول القدوة:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، وكان لا يرفع صوته فوق الحاجة ، وإليك نماذج من حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم أذية من حوله برفع الصوت:
أخبر المقداد رضي الله عنه عن مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى لبيته فقال: "فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليما لا يوقظ نائما".(رواه مسلم).

وقال عطاء بن يسار: لقيتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرو بن العاص فقلتُ: أخبرني عن صفةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في التوراةِ فقال: "أجل واللهِ إنَّهُ لموصوفٌ في التوراةِ ببعضِ صفتِه في القرآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحِرزًا للأُمِّيِّينَ أنت عبدي ورسولي سمَّيتُك المتوكلُ ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواقِ ، ولا يدفعُ بالسيئةِ السيئةَ ولكن يعفو ويغفرُ..".
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يبغض رفع الصوت بلا حاجة ، فقال: "إنَّ اللَّهَ يُبغِضُ كلَّ جَعظريٍّ جوَّاظٍ صخَّابٍ في الأسواقِ..". والصخب في الأسواق كثرة الخصام ورفع الصوت فيها.

إن خفض الصوت والاقتصار على القدر الذي يُسمع لهو نوع من حسن الأدب واللّطف ومكارم الأخلاق وأدب الحوار التي علمنا إياها ديننا الحنيف ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، و فيه محافظة على شعور الناس بعدم إيذائهم برفع الصّوت.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

محاسن الأخلاق

صلة الأرحام.. فضلها وأثرها

مجتمع الإسلام مجتمع متواد ومتآلف، متحاب متعاطف، أراد الله لأهله أن يكونوا إخوة متحابين، وأحبة متواصلين، فشرع...المزيد