الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كتب النوازل

كتب النوازل

كتب النوازل

تزخر كتب النوازل بمادة تاريخية وفقهية غاية في الأهمية، وتُعَد سجلاً حافلاً لجوانب كثيرة من حياة الأفراد والجماعات، وتعمل على كشف كثير من القضايا الفكرية والاجتمـاعية والتشريعية؛ فالنوازل تعني ما يَعـرِض لأفراد المجتمع من قضايا ومنازعات قضائية تُطرَح على القضاة؛ ولهذا الأمر قيمة عظيمة بلا شك لا من الناحية الدينية فقط؛ بل لأنها كذلك تُلقي الضوء على كثير من دقائق الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

كما تُطْلعنا على مدى الأصالة في التشريع المغربي والأندلسي، ومدى آثار البيئات الإقليمية في هذا التشريع، كما تعمل على التعرف على النُّظم القضائية، ودور المفتين والمشاوَرِين في إرشاد المتقاضين ومناصرة المظلومين وتنوير رأي الحاكمين، والتعرف على منشآت المجتمع الحبسية، وما قدمت من دعم دائم للمؤسسات الدينية والتعليمية والجهادية.
ومن أبرز مميزات كتب النوازل: الواقعية، والتجدد، وتنوع التأليف، ومن ثَمَّ تكون كتب النوازل منجماً غنيّاً بمعلومات موازية يستفيد منها المؤرخ والقانوني والاجتماعي. وتقول المستعربة الفرنسية رايل آريه: «تشكل هذه الفتاوى أهمية عظمى ليس فقط في مجال الفقه الإسلامي في الأندلس، إنما أيضاً في غزارة المعلومات التي تقدِّمها لنا حول الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيه، هذه المعلومات تكاد تخلو منها - تقريباً - كتب المؤرخين".
والنازلة الفقهية تعكس صورة المجتمع الإسلامي في خصوصياته وفي مشاكله وتعقيداته. كما أن غنى مادتها يمكِّن من كشف ما عجزت الحوليات التاريخية عن كشفه. فالفقه الإسلامي ليس مجرد نظريات ميتة في الكتب فقط؛ بل هو فقه للحياة، أو كما يقول ابن سهل: «التجربة أصل كل فن".

من المعروف أنه منذ أن وصل المذهب المالكي إلى الأندلس وأهلُها على رأي هذا المذهب، وما انقطعت صلتهم به، والفقه المالكي فقه (علمي - عملي)، يَعتدُّ بالواقع، ويأخذ بأعراف الناس وعاداتهم، ويستند إلى المصالح المرسَلة التي هي من أجلِّ قواعده، وهكذا انطلـق الفقـه الأندلسـي يبـدع في غير ما مجـال من مجالات المعرفة، وأطلق لنفسه حرية الفكر والبحث وتفجرت فيه ينابيع النبوغ؛ فأبدع حضارة قلَّ نظيرها بين الأمم التي عاصرته؛ إذ كان أكثر قبولاً للتمدن، لقد تقصَّى فقهاء هذا القُطر أحول زمنهم، وأوضاع مجتمعهم؛ فاستنبطوا لهـا من التقنيـات الملائمـة لظروفهـا وأحوالهـا ومسـتواها، ما يكشف عن دقائق الأحداث والمواقف والأوضاع، ليس هذا فحسب؛ بل إنهم في ما تقصَّوه من جزيئات، جاوزوا حدود زمانهم في رؤية ثاقبة نحو المستقبل.
ويوضح خوان مارتوس كيصادا أن: «الأدب القانوني الأندلسي يُعد بدرجة أُولَى أدباً تطبيقياً براغماتياً يروم حل مشاكل معيَّنة وإيجاد حلول ملموسة ودقيقة".
وهو ما عكسته (كتب النوازل) وفي مقدمتها كتاب (النوازل) لابن سهل الأندلسي و (كتاب المعيار) للونشريسي، بالإضافة إلى رسائل (الحسبة) التي تعد بمثابة أعمال تطبيقية يتخذها نظار السوق كدليل لمساعدتهم في القيام بمهمتهم ، من منطلق أن القانون الإسلامي هو فقه وشريعة، وبذلك فهو لصيق بالخاصية الدينية.

وسوف نحاول في هذا المبحث أن نقف على مدى أهمية كتب النوازل كمصدر هام يثري الدراسات التاريخية والقانونية، وكيف أن دراسة تلك النوازل تكشف لنا حُجُب كثير مما نجهله في فترة العصور الوسطى الإسلامية بصفة عامة والمغرب والأندلس بصفة خاصة. نوازل ابن سهل ( ت 486هـ - 1093م ).
يُعتبَر كتاب (الأحكام الكبرى لابن سهل) من أجَلِّ الكتب التي تنتمي إلى هذا اللون من المؤلَّفات، ويقدم لنا بشكل عملي تطبيقي ما كان يجري في المجتمع من منازعات تمثِّل حياة الناس خير تمثيل.

وتأتي أهمية نوازله في أنها كانت شاهد عيان على تلك القضايا (الاجتماعية والقانونية والتاريخية)، كما تضمنت وثائقَ غاية في الأهمية عن أحكام القضاء الجنائي في الأندلس في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وتُلْقي الضوء على التاريخ الاجتماعي للأندلس في تلك الحقبة التاريخية الحساسة، وعلى الإجراءات وأسلوب البحث القانوني والتحقيق والتدقيق الذي كان يتولاه القاضي قبل الفصل في القضايا المعروضة عليه. وتضمَّنت نوازله أيضاً التحقيق في جرائم مثل: القتل العمد ببواعثه المختلفة، والاغتصاب، والضرب، والجرح المفضي إلى الموت أو القتل الخطأ في عرف القوانين الوضعية الراهنة، وجرائمِ السبِّ والقذف والتهديد، وجرائمَ أخرى، مثل تعكير الأمن والعبث به وتهديد سلامة الأرواح، والاعتداء على حرمة الـمُلكية الخاصة.

وقد استفاد من هذه النوازل ليفي بروفنسال؛ حيث رجع إليه [أي إلى الكتاب] في كثير من المواضع التي كُتبَت عن نُظُم الحكم في الأندلس، وعن حياة المجتمع الأندلسي وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية ؛ كما وجدنا وثائق تتعلق بقضايا عدة، منها: قضايا خاصة بالسوق ورقابة المحتسب على أعمال الصناع والتجار، ومنها: أن بعض الخرازين تألَّبوا على المحتسب وأرادوا إخراجه من السوق ومنعَه من إعمال رقابته عليهم، وادَّعوا عليه بإلحاق الأذى بهم والتسلط عليهم؛ لأنه كشف غشهم ونبههم إلى سوء عملهم وردِّهم ابن عتاب؛ وأكد على أنه لا يباح لهم ذلك، والأَوْلى بالإخراج المعترِض لا المحتسب.
ونجد وثيقة أخرى توضح استيلاء ابن السقاء (مدبِّر الحكم الجَهوَري) على أموال المسلمين؛ فأصبح ذا ثروة طائلة وابتنى القصور والضِّياع، وكانت وقائع القضية والحكم فيها محلَّ تشاور بين صاحب أحكام قضاء الجماعة بقرطبة (سراج بن عبد الله)، وبين المشاوَرِين (محمد بن عتاب، وأحمد بن محمد، وموسى بن هذيل) من فقهاء قرطبة، وتؤكد الوثيقة على أن ابن السقاء قَبْل تولي المنصب لم يكن يملك من حطام الدنيا شيئاً، وعندما توفي عام 455 هـ خلَّف تَرِكة واسعة وتبيَّن أنها من أموال لمسلمين. وتم التوصل إلى أن جميع ما تركه هو للمسلمين إلا ما صحَّت ملكيته له.

كما أفادت نوازله في قضايا كثيرة، منها: قضايا الجواري والإماء، ورَفْع بِيَع النصارى، والمعاملات اليومية بين المسلمين واليهود في الأندلس في بداية عصر المرابطين. وكشفت نوازله عما كان يحدث في الأندلس من (تدليس في الشهادة على الخط) من خلال ما ذكره لأحد أعلام المذهب المالكي، وهو الفقيه محمد بن عبد الحكم، الذي قال عن هذه الشهادة: «لا أرى أن يُقضى في دهرنا بالشهادة على الخط لما أحدث الناس من الفجور والضرب على الخط» ، وكانت الشهادة على الخط ترتبط في حالات كثيرة بالتدليس.
وهكذا يتضح لنا أن كتب النوازل اشتملت على أحداث (تاريخية وفقهية واقتصادية واجتماعية) قد لا تتوفَّر في كتب التاريخ أحياناً؛ وذلك لأن النوازل تُعتَبَر انعكاساً صادقاً لأحداث المنطقة وظروفها.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة